صدفة وبشكل عفوي غير مقصود وجدت نفسي اقلب ذلك الالبوم الكبير الذي يحتوي أعمال أكبر عدد من الفنانين المصريين المعاصرين. وقد ادهشني ذك التباين الهائل في المفاهيم والرؤى الابداعية لهؤلاء الذين يتعاملون مع مسطحاتهم التصويرية بقدر هائل من الادراك بضرورة الوصول باللوحة إلى المستوى المغاير للسائد.
فإذا كانت لوحة «عمر النجدي» على سبيل المثال تتقدّم بوصفها التماثل للحكاية الشعبية المصرية، فان لوحة «جورج البهجوري» سوف تكشف عن إمكانية تأليفية سريعة الايقاع، فيما تطرح لوحة «احمد نوار» ذلك التوازن العقلاني بين ما هو هندسي (فيتاغوري) ومعماري ناضج علماً ان لوحة تأويلية للتطور الحروفي سوف تبرز عنه «صلاح طاهر».
لقد انعطفت صوب هذه الأسماء بالذات، لكي اركز على مسار اللوحة اللبنانية التي يصعب ان تتلمس الفوارق الايقاعية الا بشكل ذاتي بحت، لأن الفنان اللبناني في سعيه إلى التمايز عن السائد يبحث عن الجوانب التي غفل عنها زميله الفنان. أو التي لم يستطع الانتباه إليها اصلاً. علماً ان الفنان اللبناني يضع سراً، وفي ادراج مرجعياته الفنية تلك السندية المتمثلة بواحد من الفنانين العالميين الذين قدموا مساراً جديداً لحركة الفن المعاصر.
فإذا كنا نقرأ بوضوح السراب «الماتيسي» عند فنان معين، فاننا نستطيع ان نسمع الايقاع السري «البيكاسوي» عند منحوتات فنان آخر، فيما سنشاهد الايقاع العام للاستاذ الاسباني (اميليو لوبيه) في مرحلة كاملة من مراحل فنان مكرس! وقد سبق ان كتبت عن العلاقة بين نحت الكتلة عند (هنري سور) وبعض أعمال كبار النحاتين اللبنانيين.
والغريب ان العديد من الفنانين اللبنانيين يبقون أوفياء للمدارس الكبر» التي درسوا فيها الفن. لدرجة ان بعض خريجي الجامعا (السوفياتية) السابقة اصروا على ممارسة الايقاع القائم على التعبيرية الواقعية - مدرسة موسكو أو مدرسة لينينغراد - حتى بعد تخرجهم بأعوام طويلة، وكذلك العديد من خريجي جامعات باريس ولندن. ولكن هؤلاء اشتغلوا على ذواتهم فأعادوا صياغة المكتسب بمفاهيم جديدة.
ولكن هل تصادفنا مع ايقاعات مستقلة لفنانين استطاعوا فعلاً الجمع بين اصولهم الأكاديمية، وحسهم المكاني اللبناني، كما فعل الفنان اللبناني الراحل الكبير «ابراهيم مرزوق»، الذي نجح في المزج بين احساسه المحلي الشعبي، ومكتسبات مدرسة الاهور، التي تعلم فيها المعنى الاحترافي للتأليف الاندماجي؟ وقد نجح هذا الفنان الذي غدرته الحرب الأهلية القذرة، في تقديم لوحة متفجرة بالتجانس اللوني وبالعمق التأليفي، لتصير ايقوة الوجود البيروتي الحميم.
فنان حسّاس آخر اشتغل على أعماق حسه بالمعنى الوجودي للون، هو المرحوم «ميشال المير». فهو من المؤمنين بأن اللون كيان متحرك قائم بذاته، وهو نص له بداية ونهاية. لذلك يذهب أحياناً إلى ما كان يسميه بحافة اللون، أي الطرف الحدودي الحي من اللون. وهو بمثابة المدخل للعمق اللوني. ولهذا السبب لم يكن يخاف من ان يشتغل كامل مسطحه التشكيلي بلون واحد هو الأخضر أو البنفسجي أو الأزرق ليعلن بعد كل ما يقدمه من تفاعل فيزيائي للخامة اللونية... انه وصل إلى تدوين حافة الأخضر. أو عمق البنفسجي.
اما «سعيد عقل» الفنان الداموري العميق. فهو أوّل من اشتغل على الحروفية الاشارية، والتي لم تكن مسبوقة الا عبر إيقاع العراقية (مديحة العمري) في العراق. وذلك في الوقت الذي كان فيه مؤسس حروفية البعد الواحد المرحوم شاكر حسن آل سعيد ما زال يدرس في باريس.
لم ينتبه أحد لما يقدمه هذا الفنان العميق التفكير. ربما لأن سعيد عقل كان منطوياً على ذاته، وربما غدرخ اسمه الذي اشتهر به سعيد عقل الشاعر اللبناني الشهير.
وتكتشف فنانة ولدت بالبرازيل وتزوجت من مهندس كبير هو (سرغولوني) وجاءت إلى لبنان. ونقصد بها (إيفيت أشقر) التي اكتشفت المعنى الابداعي (للإقلالية)، وهي مدرسة تتعامل مع اللوحة بأقل قدر من الألوان والحركات. إذ تسيطر على مسطحها التصويري بسهولة وبراعة. فاللوحة ضربة لون على خلفية متقشفة.
ان العديد من الفنانين اللبنانيين الذين نسجوا لذواتهم الاتجاهات الأساسية التي ارتكزت عليها اللوحة، اشتغلوا على التطور (الموضوعي) مهملين المسألة (الشكلانية) التي اضحت ثانوية في اعرافهم، ومفاهيمهم التعبيرية أو التجريدية، فإذا كان «ايلي كنعان» يصنع من لوحة التأليف مقاربة بيزاجية، فان «هلن الخال» تعاملت مع لعبة التبقيع اللوني بشكل لم يبتعد عن قطب مدرسة نيويورك الأميركي (هاملتون). فيما لم يستقر «عارف الريس» على اتجاه محدد، بل استمر باختراع ما يراه مناسباً، وذلك على النقيض من (بول غيراغوسيان) الراسخ الذي كان الامتداد الايقوني العظيم الهارتونغ) الفنان الالماني الكبير. أما نزار ضاهر الدارس في الاتحاد السوفياتي السابق فقد نجح في تطوّر مدرسة (سوريكوف) واسس البيزاج الافقي بوعي غنائي كبير(1).
ويقدم «هاروت طوروسيان» براعته كرسام، سواء على مستوى القاعات الانسية أو المناظر أو البيوت التي يكونها تكعيبياً، لكنه في الوقت ذاته يقدم حالة تلوينية مميزة. وفي المنحى التكعيبي ذاته ليذهب الأرمني «بركيف».
ولكننا لا نستطيع الا ان نتوقف امام مسيرة الفنان «سمير أبي راشد» فهو فنان تعبيري بايقاع سوريالي رمزي. يتعامل مع اللوحة كموضوع متكامل، أو كنص يتقدّم ليكشف بالتفاصيل عن مكنوناته، هكذا يتعامل مع الحدث التأريخي عبر لوحة فخر الدين، وهكذا حين يغوص في العمق الفلسفي للوجود، لكنه أيضاً من الرسامين أو الصناع المهرة في الرسم.
بالطبع من الصعوبة تخطي خصوصية الراحل «وجيه نحلة»، العصامي الذي تتلمذ على ذاته. وتوصل إلى نتائج تجريدية هامة منحت الحرف طاقة مطاطية فوق مقدرته البلاستيكية الشرقية المعروفة. ان الحروفية (الريازية) وجدت في لوحة نحلة وجودها الجميل.
إن عينة صغيرة من بين حشد فني كبير تحاول ان تشفع للمحترف اللبناني جموده، وفقر تنوعه الماتيريالي، أو نفحة الابتكاري المتجدد.
ولكن لأن من ان نستثني محترفات قليلة منها محترف «عمران القيسي» كاتب هذه الدراسة، حيث ادخل مواد جديدة في تنفيذ اللوحة، منها مادة الكحلة العربية. واصباغ الجلود على مسطحات مبتكرة. كما لا نستثني محترف «شوقي شمعون» الذي طور رؤياه التعبيرية للعالم الخارجي، فيما أنجز الفنان «الياس ديب» لوحة مشغولة بأعماق متحركة ومثيرة، إضافة إلى المفاجأة التي لاحظناها في أعمال رياض عويضة القائمة على قاعدة (البوب آرت) فيما ستطل لوحة فضل زيادة بنضجها الصافي كواحدة من الأعمال العميقة. اما الفنان حسن جوني فان قامته الفنية هي التي اهلته لأن ينتج لوحة تعبيرية لها مكانتها في جميع مراحل الفن اللبناني حتى انه يعتبر إشارة راصدة للتحولات.
ان متابعة الكم الفني متابعة تفصيلية من الأمور التي يجب ان تدخل في مضمار الدراسات الأساسية.
عمران القيس
(1) نزار ضاهر.. الفنان العربي الوحيد الذي دخلت لوحته متحف الارميتاج الروسي.