بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 أيار 2019 12:22ص الشاعر جميل داري لـ «اللــــواء»: الشعر مسؤولية فنّية وإجتماعية أكتب لأنّي أجد الكتابة حياة عظيمة

الشاعر جميل داري خلال أمسية شعرية الشاعر جميل داري خلال أمسية شعرية
حجم الخط
عندما أقرأ له أشعر أنّ الشعر في حالة جيدة على الرغم من كثرة المتطفلين على مائدته من أنصاف الموهوبين وأرباعهم ممن نسمّيهم: شعرور وشويعر إلخ. ومن خلال وسائل الإعلام المختلفة أطّلع على تجارب شعرية عربية ذات قيمة فنية كبيرة، ويخيّل لي أنّنا نتراجع في كلّ شيء، ولكن يبقى الشعر فعلا «ديوان العرب» أما الجودة الشعرية فهي هنا بيت القصيد، قليلة هي النصوص الشعرية التي تتصف بالفنية العالية، والفنية عند الشاعر جميل داري هي عمق الموهبة وامتلاك ناصية الشعر، لا سيما أنه ليس منحازا إلى شكل شعريّ دون آخر، فمعياره هو النص، ومدى تمكّن الشاعر من نفث روحية الشعر فيه. مع الشاعر جميل داري أجريت هذا الحوار...


{ الشعر رأس الهرم الأدبيّ، والالتزام به يشكّل مسؤوليّة كبيرة نحو التطوّر، كيف تصقل كلّ هذا ضمن الحداثة الشعريّة؟

- الشعر مسؤولية فنية واجتماعية، لا بدّ من اعتناق مبدأ الحداثة على المستوى التعبيري البلاغي، فلا يجدي الاتّكاء على القدماء في تعابيرهم وأساليبهم ونمطية آفاقهم، فنحن ولدنا في زمن آخر، وكلّ محاولات التكرار للماضي لا تضيف لبنة إلى صرح الشعرية، لا بدّ من اجتراح الجديد، والتركيز على بساطة اللغة وعمقها معا، والابتعاد عن الجلجلة الصوتية على حساب همس الداخل، وإيقاعات الروح. مسؤولية الشعر تجعلني أحاسب نفسي على كلّ عبارة معنى ومبنى، وهل هذا الذي في القصيدة صوتي أو صوت الآخر؟ وإذا لم أفكر بهذه الطريقة فإنني أكون كشخص لا يكترث إلا بالزبد دون الموج، وبالبرق والرعد دون المطر. الشعر هو اللجّة التي أقتحمها، ترفعني إلى الأعلى، لأطلّ على البحر، وتخفضني إلى الأسفل لأرى جواهر البحر وأعماقه القصيّة. لا أريد النظر إلى القصيدة من برج عاجيّ مطلّ على الخواء، ولا النظر إليه من ثقب إبرة. الحداثة الشعرية ليست ديكورا جميلا لصالون يعجّ بلوحات صامتة بل هي غابة تتعايش فيها مختلف أشكال الأشجار والأطيار، لتشكّل هذه اللوحة النابضة بالحيوية والحركة والحياة.

التغنّي بالأمجاد الشعرية العربية القديمة لا تستهوي إلا من لديه بعض المعارف واللوازم الشعرية من لغة ووزن وصورة، أما الروحية «روحية الشعر» فهي أن تتجاوز تلك المرحلة، وتقفز من علوّ إلى أعلى، لتلامس سماء جديدة، وتهمس في أذن النجوم، وكأنها فاتنات الأرض انتقلن إلى السماء.لا أريد أن أكون نغمة تقليدية ملّتها الأسماع، ومجّتها النفوس، فالتكرار عدوّ الإبداع، وعدوّ الشعر، وكلّ شعر زاحف لا يحلّق لا يعوّل عليه. الشعر طيران...

{ جميل داري ولغة شعريّة بسيطة معقّدة اختزال وغنى مفردة، ألا يشكّل صعوبة أم هو إيقاع سمعيّ لبحور حفظتها؟

- أقرّ وأعترف أن لغتي بسيطة، لغة الحياة لا لغة المعاجم المحنطة، اللغة الشعرية هي ولادة لغة جديدة لا وجود لها إلا في قاموس الحياة ونبضها الخفاق، والمفردة غالبا لا تعني نفسها بل تمتدّ إيحاءاتها إلى أعماق النفس، وهذا أمر معقّد لأنّ «الفنّ يبقى صعبا للفنان وسهلا للناس» وهذا ما يسمّى أيضا «السهل الممتنع». الموهبة الشعرية خلقت معي قبل أن أعرف الأوزان وأحفظها، لأنّ الوزن وحده لا يقدّم ولا يؤخّر في الشعرية، فكلّ الشعراء الكلاسيك وزنيون، ولكن نرى فرقا كبيرا بين هذا وذاك.

واحد يرى الوزن هدفه الأول والأخير، وكلّ طموحه أن يكتب نصا خاليا من الخطأ العروضي، وآخر يكون الوزن لديه وسيلة إيقاعية لا قيمة لها دون تأجيج عناصر القصيدة الأخرى، إضافة إلى روحية الشعر التي لا أعرف لها تعريفا.

تعاملت طويلا مع البحور، وحاولت تطويعها لذائقتي، ولم أنجر وراءها مصفّقا، لذلك كتبت التفعيلي مع التقليدي ثمّ في مرحلة تالية كتبت النثريّ، فأنا لا أفرّق بين الأنواع الثلاثة، وما يهمّني هو الشعرية هنا أو هناك أو هنالك.

الشعر ليس حفظا للبحور الشعرية، فالحفظ ملكة خاصة ببعض الناس غير المبدعين، لأن الشعر فقه النفس أسرار اللغة وأسرار الحياة. ومن خلال ذلك الوصول إلى ما يوصل إليه . فإذا ظننا أن طريق الشعر سهلة وقصيرة فقد أسأنا إليه، لأنه كما قال الشاعر:

الشّعرُ صعبٌ وطويلٌ سلّمهْ

لا يرتقي فيهِ الذي لا يعلمُهْ

{ مشوار أدبي مع القصيدة، أيّ القصائد أحبّ إلى نفسك؟

- مشوار طويل مع القصيدة يمتدّ إلى نصف قرن، وما زلت أشعر أنّي في البداية. القصائد الأحبّ إلى نفسي قليلة ومعدودة سواء أكانت لي أو لغيري.. وكلما قطعت مرحلة عمرية تحدث لديّ عملية غربلة تلقائية وعفوية، حتى بقي القليل من الشعر الذي أقرؤه بالمتعة الأولى، لأنّ الشعرَ الحقيقيّ لا يصدأ ولا يهرم. من هنا أحاسبني بشدّة، وما أحبّه من شعري لا يتجاوز مجموعة أسطر مبعثرة هنا وهنا.

{ غزير الإنتاج الشّعري، ألا يضعك هذا في التكرار رغم أنّك تحافظ على عدم التكرار في المفردة الشعريّة؟

- التكرار لا بدّ منه لدى أيّ شاعر ولكن الشاعر الحريص على التطوّر يحاول ألا يراوح في مكانه بل يتجاوز نفسه من نص إلى آخر، وهذا ما فعله بجدارة محمود درويش الذي لم يرضَ عن دواوينه الأولى إلى حدّ التبرؤ منها. لم أكن أكتب كثيرا قبل عام 2011 ولكن في أثناء الأحداث السورية رأيتني أكتب بغزارة، فكأنّ الكوارث الكبرى تفجّر القريحة دفعة واحدة.

أما مسألة التكرار فربما هي موجودة، لكني أحاول دائما أن أكتب النص المختلف.

{ بات البحث عن الشعر الحقيقيّ كالبحث عن الألماس، مَن مِن الشعراء الألماسيّين في عصرنا هذا تقرأ لهم، وتسمعهم، وأين تضع نفسك على السلم الشعري؟

- كنت وما زلت أدمن قراءة المتنبي ومحمود درويش، فهما خير نموذجين للعموديّ والحداثيّ، وليس هناك شاعر آخر يستحوذ على إعجابي، لكن هناك نصوص شعرية أحبّها لشعراء مثل أدونيس والسياب ومحمد عمران، وبعض شعراء النثر.

أما عن نفسي فلا يمكن لي أن أقوّم نفسي، وإن كنت أعتبر نفسي شاعرا عاديا متوسطا أو ربما جيدا، ولذلك دوما أسعى إلى كتابة النص الحلم الذي سيشعرني أني تجاوزت مرحلة الجيد. أنا «أكتب منذ دهر وثانيتين» ولم أحلم يوما أن يقال عني: شاعر، أكتب لأنّي أجد الكتابة حياة عظيمة، هي هواء الروح الذي دونه أختنق، الكتابة خلاص.