بيروت - لبنان

اخر الأخبار

15 كانون الأول 2017 12:00ص «الظاهرة الرحبانية» لهاشم قاسم غوص بانورامي في أعماق حالة نهضوية

حجم الخط
يأتي كتاب «الظاهرة الرحبانية» للكاتب هاشم قاسم (دار بيسان) معمقاً تحليل العمل الفني الرحباني خلال النصف الثاني من القرن العشرين في الاطارين اللبناني والعربي، من حيث طبيعته النهضوية.
فالظاهرة الرحبانية قبضت على تطلعات النّاس واشواقهم وتحفزهم.
وضمن هذا السياق قال الرحبانيان عاصي ومنصور، بالتكامل مع فيروز حكاية كل لبناني وعربي أراد الخروج من ماضي التبعثر والتقليد وحاضرهما، إلى عالم يسعى إلى التجديد والنهوض عبر النص الابداعي الذي احتضن الأبعاد الإحيائية في صيغة ساهمت عمقياً في حل إشكالية الأصالة/الحداثة من النواحي الموسيقية والفنية الأخرى.
أحسن المؤلف التركيز على ان الفكرة الإصلاحية سعت إلى النهوض بلبنان والعرب وبناء الشخصية العربية الواحدة بسماتها النهضوية، وفي ما بعد بناء الشخصية الوطنية الكيانية.
وفي هذا الصدد جاءت التجربة الرحبانية لتقدم وتعزز مقومات شخصية لبنان الثقافية والإجتماعية عبر الأخذ من التراث اللبناني وتجديد قوالبه، والمهم، هنا، ان البيئة اللبنانية المنفتحة على تحصيل العلم والمعرفة وتبني اقانيم الحرية والاستقلال لعبت الدور الحاسم في بلورة الدور الثقافي الطبيعي للبنان في المنطقة العربية والعالم.
يوضح المؤلف هاشم قاسم في أكثر من فصل انه منذ الخمسينيات بدأت محاولات خجولة ومحدودة في مسار هذا السعي، الا ان النتائج كانت شديدة التواضع... إلى ان ظهر الرحبانيان باعمالهما الأولى يحاولان الاستفادة من الأدب بالعامية اللبنانية وشبكة الالحان الشعبية التي كانت تتردد في معظم المناطق اللبنانية، بالإضافة إلى الاستفادة المدروسة من الموسيقى الغربية الحاناً ووسائل تقنية وصلت إلى حدود في غاية الأهمية، منها ما يتعلق بالمضمون كالتأكيد على حرية الإنسان وإقامة المجتمع على قواعد الصدق والتسامح والسلام وقيمة الإنسان نفسه، ومنها ما يرتبط عميقاً بماهية المادة الفنية سواء كانت نصاً ادبياً أو موسيقياً، وفي هذا الصدد يعرض الكتاب بكثير من الدقة كيفية وصول الرحبانيين إلى مألفة Synthése بين الفني والمضموني في مناخ لبناني منفتح على الجديد والحديث، فكانت المزاوجة بين التراثين اللبناني والعربي وبعض النتاجات الفنية الغربية.
يُشير المؤلف إلى ان ما كان يعمله الرحبانيان له بصوت فيروز هو الحلاوة والجمال والخصوصية. فلا تجديد أو تحديث يصدر عن فراغ، إذ قامت الرحبانية برفع القيمة الابداعية للعامية كدلالة على خصوصية لبنانية وعربية مشرقية تراثية.. لكن الخصوصية - اللبنانية كانت دوماً هي الحجر الأساس. وفي هذا الضوء جاءت الاسكتشات الاذاعية الرحبانية المطعمة باسلوبهما ونكهة الواقع، واستطراداً حضر الجمع الرشيق والماهر بين الكلمة واللحن الشعبي والأداء الصوتي.
في معظم فصول الكتاب يعرض هاشم قاسم باسهاب ودقة مهارة الرحبانيين في تجاوز صيغة الأغنية اللبنانية والعربية الطويلة التي كانت تحاصر الذائقة العامة منذ الثلاثينات حتى أواسط الخمسينيات، من خلال خلق الأغنية القصيرة، ما أدى إلى قطع العلاقة بالنص المكرور.
يفرد الكتاب مساحة مهمة لإنجازات الرحبانيين الموسيقية، إذ كتبا مقدمات ومداخل اعمالهما المسرحية الغنائية، ومدّا الأغاني بايقاعات موسيقية غنية ومتنوعة، كما اتقنا استعمال الكورس الذي كان الصوت الثاني أو الثالث في كل عمل، وطّورا القوالب الموسيقية التقليدية من خلال تناول جزء من القالب والبناء عليه، وكذلك تكريس الانشاد الجماعي والتناوب الادائي بين الغنائين الفردي والجماعي كما في «راجعون» و«المحبة» و«جبال الصوان» وغيرها. ويوضح الكتاب ان هذا التوجه الموسيقي التحديثي استوجب استعمال الأوركسترا لإثراء النص الموسيقي ورفع منسوبه الدرامي.
من هنا يمكننا القول ان الرحبانيين حققا الوحدة الفنية في إبراز التوازن بين النص الأدبي واللحن والصوت، وتالياً إنجاز البنية الفنية ذات السمات الدرامية. ويمكن القول انه تبعاً لهذا النهج استطاع الرحبانيان نقل الموسيقى في لبنان والعالم العربي من الاستهلاكية التجارية إلى مرتبة الإبداع.
يخصص الكتاب أربعة فصول عن حياة فيروز وصوتها وغنائها وأدائها، ويعتقد المؤلف ان فيروز شكلت العمود الفقري الغنائي في الأعمال الرحبانية المسرحية والسينمائية والتلفزيونية والمهرجانات كافة.
بعد إندلاع الحرب اللبنانية ووفاة عاصي الرحباني سنة 1986 توقفت الظاهرة الرحبانية الممثلة بعاصي ومنصور وفيروز كمسيرة نهضوية وحدث التراجع والانكفاء في حياة لبنان الفنية ودخلنا مرحلة قلّ فيها الجيد والمتقن وكثر فيه الاستهلاكي حتى حدود العيب.