بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 تشرين الثاني 2019 12:03ص العربيَّة بين فاعليَّة «اللِّسان» وواقع «اللُّغة» (الحلقة الثانية) «الوجود الثقافي المُعاصِر»

د. وجيه فانوس د. وجيه فانوس
حجم الخط
أصْبَحَ مِن غيرِ المُمْكِنِ للوجودِ الإنسانيِّ المُتَحَضَّرِ، أن يعيش اليومَ بعضُ ناسِهِ في عُزلةٍ عن بعضهِم الآخر؛ فالمسافةُ بين التَّحضُّرِ الإنسانيِّ والتَّواصل الإنسانيِّ أضحت، بسببٍ من تَسَارُعِ التَّقدُّم في فاعليَّةِ وسائل التَّواصُلِ مقابلِ التَّباطؤ في استيعاب المنجزات المعرفيَّة، أكثر اتِّساعاً في ما بينها! واقعُ الحالِ، إنَّ المتطلَّباتِ المعاصِرَةِ للعيشِ الإنسانيِّ لم تعد تَكْتَفِ بِمُجَرَّدِ التَّلاقي العابرِ بين ناسها؛ بل باتت تفرضُ عليهم ضُروباً متعدِّدة من التَّعاون ومساحات أكبر من التَّكامل.

 ورغم أنَّ القوَّة والسُّلطة ما برحتا فيصلاً أساساً في هذا المجال، يَفْرُضُ بهما القويُّ بعضَ ما عندَه على مَنْ هو أَقلَّ قوَّةً أو شأناً منه؛ وصارَ من هو أقل شأناً مِن سواه، يتقبَّلُ غالِباً ما يقدِّمه له هؤلاء، بل وفي أحيان كثيرة يسعى إلى تَمَثُّلٍ له به؛ فيكون ثمَّة تابعٍ ومتبوعٍ، أو يكون ثمَّة مُنْتِجٍ ومُسْتَهْلِك. لذا، فإنَّ ميادين التَّعاون الجماعيِّ، كما فسحات التَّكامل الإبداعيِّ بين النَّاسِ، في مجالات المعاصرة الإنسانيَّة لوجودها المتحضِّر، ما انفكَّتا تفرضان ذواتها على الجميعِ؛ سعياً إلى تجاوز أسوار السَّيطرة، لتحلَّ مكانها مجالات التَّعارف المشترك والفهم المُتبادل بين النَّاس. إنَّه الطُّموح الجبَّار للخروج من ربقة ما يعرف بـ «صراع الحضارات»، وتناتُشِها في ما بينها ليبتلع الأقوى منها كلَّ ما هو أقلَّ قوَّة منه؛ وصولاً إلى تلاقي الحضارات؛ ونهوداً، مِنْ ثَمَّ، إلى تكاملٍ ما في ما بينها، أو سعيَّاً إلى إبرازٍ لتمايُزٍ إنسانيٍّ تتحلَّى بها واحدتها في وجود الأخرى.

إن كثيراً مِمَّا تُنْتِجُهُ المعاصَرَةُ الإنسانيَّةُ الرَّاهنةُ، من معارفَ وتقنيَّاتٍ، على سبيل المثال وليس الحصر إطلاقاً، يحتاج، حُكْماً، إلى أسواقٍ واسعةٍ لتصريفه والعملِ على استهلاكه. ومن هنا يأتي أحد أبواب انتفاء العزلة بين أهلِ الإنسانيَّةِ؛ النَّاهدين، بحُكْمِ الغريزة أو الحاجة، إلى التَّقدُّم والتطوُّر والتَّجديد ومجاراةِ مناحٍ من المعاصرة. ولعلَّ ما تُبديهِ دنيا ما يُعرفُ بـ «تقنيَّة المعلومات» informatics أو informatique، راهناً، من سرعة التَّفاعلٍ الإبداعيٍّ والإنتاجيٍّ وخاصة الاستهلاكيٍّ، بين ناس المعاصرة، جماعات كانوا أو أفراداً، لخير ما يؤكِّد صحَّة هذه المقولة، وأفضل ما يُشير إلى حقيقة وجودها، بوضوح ماديِّ ومعنويٍّ لا لبس في أيٍّ منهما على الإطلاق.

تُحتِّمُ هذه الضَّرورة، للتَّلاقي بين ناس الوجودِ الإنسانيِّ المُتَحَضَّرِ في الزَّمن الرَّاهن، بروز حوار ثقافيٍّ بين هؤلاء النَّاسِ جميعاً؛ إذ ثمَّة خلفيَّات ثقافيَّة حضاريَّة ورؤيويَّة عقائديَّة أو معتقديَّة عند كلِّ منهم، أفراداً كانوا أو جماعات، تتطلَّب من كلِّ واحد منهم أن يعرف كيف يتعامل معها وبها وربما من أجلها، في سبيل تحقيق أمرين أساسيين في هذا المجال. يتمثَّل أحد الأمرين في الحِفاظ على ما يُعرف بـ «الهويَّة الذاتيَّة»، أو ما يُمكن أن يسمَّى بـ «الخصوصيَّة الذاتيَّة للوجود»؛ في حين يتمثَّل الأمرُ الآخر بضرورة الانخراط في ما يُمكن أن يُعرف بـ «الهويَّة الجمعيَّة المعاصرة للوجود الإنسانيِّ»؛ فضلاً عن الإندماجِ المفروضِ بما يمكِّن أن يسمّى بـ «الوجود الجَمعيِّ العامِّ للثَّقافة الإنسانيَّة المعاصرة»، وهي «جمعيَّة» يُنظر إليها على أنَّها شرطٌ لازمٌ لتأمين فاعليَّةٍ عمليَّةٍ ناجحةٍ لِما تُنْتِجُهُ المعاصَرَةُ الإنسانيَّةُ الرَّاهنةُ. إنَّه حوار المعرفة والتَّعارف أكثر منه حوار الإندماج في الآخر والذَّوبان فيه.

«اللُّغةَ» ههنا عنصرُ تَحَدٍّ بإمتياز؛ إذ تُشكِّلُ، ضمن هذا السِّياق، أبرز أدوات التَّواصل وأهمها؛ فلا فكرٌ، حقيقيٌّ، من دون لغةٍ يتشكَّل بها؛ ولا تواصلٌ، واضحٌ ودقيقٌ، من دون لغةٍ على الإطلاق. فإمَّا أن يجتمع المتحاورون على لغةٍ واحدةٍ أو عدَّةِ لغات، يُحسنون التَّلاقي بها في ما بينهم؛ ليوضِّح كل فريقٍ منهم ما عنده ويبحث، مع الآخر، في دقائق القضايا التي يبغي البحث بها؛ أو أنَّهم أمام اختيارٍ للتَّحاور عبر لغاتٍ يرى فيها أحدهم كثيراً من العُجمة ويعجز عن نقل ما عنده من دقائق الأمور إليها أو بها، وهذا أمر مخالف لطبيعة الحوار ومناهض لحقيقة التَّلاقي الإيجابيِّ بين المتحاورين أنفُسَهم.

تنبثق العربيَّة اليوم، في ساحات الحوار الثَّقافيِّ المعاصر، مزدهيةً بتاريخ عريق لها، قلَّ أن اشتركت معها بمثله لغة أخرى. فالعربيَّة ابنة تراثٍ لغويٍّ ممعنٍ في القِدم، يمتدُّ إلى أكثر بكثيرٍ من الف وخمسماية من السِّنين؛ وكثير من ناسها ما برحوا يُصِرُّون على الحِفاظِ عليها صافيةً، وفاقاً لما وصلت به إليهم عبر هذا التُّراث العريق. والعربيَّةُ، من جهة أخرى، تحمل مسؤوليَّة تراثٍ كلاميٍّ شديد العراقة وعظيم الوفرة، إمتدَّ عبر قرونٍ عديدة من الزَّمن وتجلَّى من خلال نتاجات أدبيَّة وفكريَّة ملأ كثير منها أصقاعَ الأرض قاطبةً وضجَّت به، معجبةً، تضاعيف السِّنينَ وتواريخ الحقب. ويضاف إلى هذا كلِّه، بل يفوقه أهميَّة وعظمةً وثباتاً، أنَّ العربيَّة هي التي أُنْزِلَ بها النَّصُّ القرآنيُّ، الذي يتِّخذه كثيرٌ جدَّاً من ملايين سكَّان الأرض، حتَّى اليوم، أساساً لدينهم ونبراساً لتفكيرهم ومدخلاً إلى مفاهيم لهم ومعياراً لقيمهم.

انزرعت العربيَّة بين ناسها، رغم كلِّ ما سبقت الإشارة إليهِ من مزاياها البنائيَّة وسِماتها التَّاريخيَّة، ضمن سياقين أساسيين غير متعارضين، مبدأيَّاً، فيما بينهما؛ فثمَّة عربيَّة فُصحى وثمَّة عَربيَّة محكيَّة. فناسُ العربيَّة يعمدون إلى استخدام ما يعرف بـ «العربيَّة الفصحى»، في الغالبيَّة العظمى من كتاباتهم الرَّسميَّة والعلميَّة والدِّينيَّة والاجتماعيَّة والأدبيَّة، إذ يعتقدون أنَّ في هذه المجالات ما يفرضُ رصانة في التَّعبير الكلاميِّ ومحافظةً في الاستخدام اللّغوي المتوارث بحرص وعناية وشدَّة التزام؛ في حين أنَّ نصيب ما يعرف بـ «العربيَّة المحكيَّة» من كلِّ هذا أقلَّ بكثيرٍ، ولعلَّه يحتلُّ مرتبة أدنى قيمة من سابقه عند غالبيَّة معتبرة، عبر التَّاريخ، من ناس العربيَّة بشكل عام؛ فبات أكثر انفتاحاً منه على التغييرات بل والاجتهادات والتَّنويعات، وأكثر قبولاً لما هو من خارج العربيَّة من تراكيب.

  رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي