بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 أيلول 2020 12:00ص الفَقْدُ المدوّي

حجم الخط
خلال ثوانٍ، دوّى الفقد في لبنان. وطن مفجوع، بقر بطنه، ففَقدَ أمنه. فَقدَ أهله. فَقدَ أبناءه. وطن فَقدَ أشقاءه. فَقدَ أصدقاءه. وطن فَقدَ عاصمته: بدت كالأم المفجوعة. دوّى الفقد فيها دويا عظيما. صاحت لشدّة العصف والقصف، صاحت لشدّة الهول، لشدّة مصابها بكل جنون: على العدو وعلى «العنبر». 

دوّى المرفأ، دوّى «العنبر -12»، دوّى حوضه المائي، دوّى حوضه المدني، بلغ دويه أقصى الأرض.. بلغت ناره أعنان السماء.

خلال ثوانٍ معدودة، فُجعت العائلات بأغلى ما عندها، دوّت العائلات دويا عظيما، دوّت الطوائف، دوّت المحافظات الخمس، «كأنما تداول سمع المرء أنامله العشر». صاحت التُرب صيحة قبر بطول العالم، دوّى الفجع.. دوّت الفجيعة.

دويّ عظيم، فجّر بركانه العدو الخارجي. فجّر بركانه، المتعاون الداخلي. فجّر بركانه الأب المهمل والإبن المشبوه. فجّر بركانه الفاجرون والمرتشون: مرتشو المصائب العظام. مرتشو النكبات والفواجع: مرتشو الفواجع الكبرى. ومصاصو الدماء وتجار المخدرات وتجار السلاح وتجار الحروب. وتجار الأوطان وتجار الشعوب.

إجتمع على لبنان الوطن وعلى بيروت العاصمة وعلى المرفأ باب الحرية والحداثة، باب البحر، باب الغرب: العدو الغاشم، والأب الأحمق والإبن الأهوج والرجل المفسد والمهمل. وكذلك المدسوس والمخرّب والمتواطئ والعميل. وكذلك الرجل الأخرق الكبير.

دويّ عظيم خرج من فم المئوية الأولى العجوز، هل تعلمون، صبّت داويتها كلها في أذن المئوية الثانية الطفلة الحديثة الولادة. وقرت أذنها حتى العظم، جرّدتها حتى اللحم، وقرّ فيها كل هذا الدوي. دوي البراكين التي إشتعلت في ثوانٍ: زلزلت الجبال الراسيات، زلزلت الأرض، وهرَّت السبع الطباق، هرَّت المجرات، هرّت الكواكب والنجوم.

رسالة من حمم البراكين، من فوهات البراكين، تفجّرت، تشظّت، من ثغر بيروت. من مرفأ بيروت: أم الشرائع، أم الأبجدية، أم الأرض.. تفجّرت، تشظت، تتطايرت، من أذن جوزائها، من حوضها.

نسفت «المئوية العجوز»، أطاحت بها. نسفت «سايكس- بيكو»، أطاحت به. نسفت الإنتداب، نسفت الإستقلال، أطاحت به. نسفت الميثاق والدستور، نسفت الطائف والدوحة، نسفت الإجماع، نسفت الإجتماع، نسفت الشراكة الوطنية، نسفت الدولة الوطنية، نسفت الإرادة الوطنية، نسفت التاريخ، نسفت الجغرافيا، نسفت الدستور والقوانين والشرائع والمعاهدات الدولية والعربية وحقوق الإنسان. نسفت الجمهورية، أعادت الصراعات مع العدو إلى نقطة الصفر. أعادت الجيش، الشعب، المقاومة، إلى نقطة الصفر. أعادت كل شيء قاعا صفصفا. أحالت كل شيء رمادا مذرورا.

«لم يكن موت بيروت، موت واحد «لكنه بنيان قوم تهدم!».

«فقد»، هوى عليها دفعة واحدة، قذفها إلى السبع الطباق، رماها ركاما ركاما، كما في أفلام هوليوود، فلم يبقَ منها، ولم يذر.

خرجت الثعابين مذعورة من أوكارها، خرجت وراءها الذئاب والكلاب والقطط، خرج العسس.

هبّت إليها الوطاويط من كل الجهات، شرقا وغربا. قدم إليها يهوذا، قدم إليها «بريتوس»، وقف السمسار على الخراب، وحطّ على غصن قلبها الغراب.

كانت العائلات التي إفتقدت حجراتها، التي إفتقدت أسرتها، التي إفتقدت أحبتها، التي إفتقدت أطفالها، التي إفتقدت أشياءها، التي إفتقدت ذاكرتها، إفتقدت ذكرياتها: كانت تنادي على المجرمين، من شدّة الهول: هول الفقد.

مضت العائلات تحت أعين الجناة، تلملم الدم المسفوح، من دروب نسيت أحبتها فيها. تلمّ من تحت الركام أشلاءها. كانت تلتقط حبات نفسها، كانت تلم عناقيد الأسر وعناقيد الأسرة، وعناقيد الأسْرة (بسكون السين). تُسائل نفسها عن حملها كل هاتيك السنين: مائة عام ناءت به، تحت أعين الجبابرة الطغاة، ثم دوى طلقها، كل هذا الدوي الدموي. أجهضت به دفعة واحدة ثم كان لها كل هذا الفقد المدوي حتى أغوار الأرض وأعنان السماء.

بيروت اليوم، تسائل نفسها: «بأي ذنب قتلت».

«الفقد المدوي» اليوم يعمُّ لبنان، يعمُّ بيروت، يعمّ المدن والقرى، والسهل والجبل، يعمّ المهاجر وبلدان الإغتراب، يعمّ عواصم العالم، يعمّ منابر العالم، يعمّ الساحات والأجواء والبحار..

يعمُّ سكك القطارات، يعمّ المطارات، يعمّ أعماق البحار وأعماق المحيطات.

«الفقد المدوي»، صنوه اليوم الصمت المدوي.

هل بلغنا ذروة الموت، حين نصمت في وجه مجرم العصر، في وجه العدو؟..

سؤال بحجم، كل ها ذاك الفقد.. كل ها ذاك الدوي!

 د. قصي الحسين

أستاذ في الجامعة اللبنانية