بيروت - لبنان

اخر الأخبار

22 تموز 2020 12:00ص الفساد

حجم الخط
 الفساد جريمة يعاقب عليها في كل تشريعات العالم أيا كانت صورتها: رشوة أم اختلاس، أم استغلال نفوذ... إلخ، وهي بذلك يمكن النظر إليها شأن كل جرائم أخرى في ظل ثنائية الخير والشر.. الجريمة والعقاب.. إلا أن خطورة الممارسات الآن توضح، أن الفساد قد تجاوز مفهوم الجريمة ليصبح ظاهرة وخيمة الدلالات والنتائج وربما ذات آثار مدمرة على كثير من البنى الاجتماعية والاقتصادية والسياسية في المجتمع، وهو الأمر الذي يستوجب النظر للفساد بأكبر قدر من القلق والاهتمام والمواجهة.

ولعل خطورة الفساد تتجلّى بوضوح شديد على الأصعدة القانونية والاقتصادية، والسياسية، والاجتماعية التالية:

أولهما أنها كجريمة فقد تفتقر غالبا إلى وجود «المجني عليه» كشخص طبيعي مثلما يوجد في الكثير من الجرائم الأخرى مثل القتل أو السرقة أو الاغتصاب... بل تقع جرائم الفساد في الغالب على شخص اعتباري مما يضعف أحيانا من الحافز الفردي على الملاحقة لغياب الأذى الشخصي المباشر الناشئ عن الجريمة ويلقي بالعبء كله على جهات الرقابة والتقصّي.

أن معظم جرائم الفساد هي مما يطلق عليه جرائم «الكتمان» حيث يصعب الكشف عن الجريمة بقدر ما تزداد فرص التستر على ارتكابها فترة طويلة لا سيما مع كون الجاني موظفا عاما ويملك حصانة سياسية نافذة يختار وقت ووسيلة ارتكاب الجريمة، ويستفيد من مجموعة سلطات فعلية وامتيازات قانونية تمثل في نهاية المطاف غطاء ارتكاب جريمته. ولعل هذا الوضع يفسر تصاعد ما يعرف بالرقم الأسود أو المطموس في جرائم الفساد، وهذا الرقم الأسود يمثل الفارق بين عدد جرائم الفساد التي وقعت بالفعل وعدد جرائم الفساد التي تم الكشف عنها أو الحكم بإدانة فاعلها. فالفارق بين الرقمين (الرقم الأسود أو المطموس) يزداد يوما بعد يوم، وهي زيادة لا يمكن تفسيرها إلا من خلال وضع إستراتيجية مكافحة الفساد بشتى حلقاتها الوقائية والرقابية والقضائية، وهو ما يفرض الحاجة إلى رؤية جديدة لتعزيز هذه الإستراتيجية.

تبدو ظاهرة الفساد - بلغة الأرقام - مخيفة ومقلقة إلى حد بعيد.

تبدو الظاهرة على مستوى آخر من الخطورة. فالفساد لا يمكن فصله عن تدنّي أو غياب قيم الوطنية والديمقراطية والشفافية والنزاهة والمساءلة. وكلها قيم مركزية لضمان قيام مجتمع مدني حديث يضمن حقوق وحريات الإنسان. وتتجلّى خطورة الفساد على الصعيد السياسي أكثر فأكثر بحكم عاملين:

ما يؤدّي إليه الفساد من إمكان نشوء تحالف بين الفساد والقوى السياسية والحزبية، وهو تحالف غامض وله عواقب وخيمة كما أنه يفتقر إلى المشروعية والأخلاق ويكرّس نفسه لخدمة أفراد ومصالح ضيقة سياسية أحيانا واقتصادية أحيانا أخرى بمعزل تماما عن هموم ومصالح المجتمع.

العامل الثاني: وهو يترتب على ما سبقه فمؤدّاه أن استشراء الفساد وتحالفاته السياسية والحزبية يمهّد في الغالب ويواكب أنشطة إجرامية أخرى تقوم «بالتخديم» على هذا الفساد، وهو أمر ينذر بعواقب من نوع آخر. وفي ظل مناخ كذلك يصعب تصوّر كيفية احترام وتعزيز حقوق المواطنة الأساسية مثل المساواة وتكافؤ الفرص، بل وكيفية ضمان الاستقرار السياسي وضمان شرعية مؤسسات الدولة.

ثمة عناصر قد تقع خارج نطاق المشروع الإجرامي للفساد وتمثل رغم ذلك أهمية خاصة، والاهتمام بهذه العناصر يقلق الفساد ويحرمه من التمتع بثماره غير المشروعة، فمن ناحية أولى يجب خلق وتطوير آليات للابلاغ عن الفساد حيثما كان. وتلعب التوعية المجتمعية وحرية الصحافة دورا مؤثرا في هذا الخصوص.

وقد يتوقف ذلك على ضمانات لا بد من توفيرها كبرامج حماية الشهود والمبلغين عن الجاني ورفع الغطاء السياسي عنه إيا كان واعتبار المتدخّل شريكا يجب مساءلته وهذه تمثل ضرورة لا غنى عنها لتعزيز أية استراتيجية لمكافحة الفساد. إن وجود آليات غير تقليدية ومبتكرة تشجيع الإبلاغ عن قدماه.. مكافاة لدى البعض الآخر.. حماية مؤكدة للمبلغين والشهود على غرار برامج حماية الشهود المقرر في صكوك واتفاقيات مشابهة.. الخ.

أصبح الفساد مرضا مزمنا يلاحق لبنان بكافة فئاته ومؤسساته. ومع تزايد التراخي في تطبيق القانون ضد الفاسدين، وفي ظل الحماية السياسية للمرتشين في إدارات الدولة.