بيروت - لبنان

اخر الأخبار

17 كانون الثاني 2020 12:00ص النساء وتدبير الزَّمن الحرّ

حجم الخط
تتجلّى إحدى أبرز سمات الحضارة المُعاصِرة في كونها حضارة الوقت الحرّ أو الترويح والترفيه. فقد شهدت المُجتمعات الحديثة منذ عقود تزايُد مَظاهر الترفيه والتسلية واللّعب واللّهو في حياة الأفراد، وتكاثُر وسائلها التي لم تعُد محصورة في التلفزيون أو الراديو أو المَكتبات، وإنّما أخذت أشكالاً متعدّدة ومتنوّعة يصعب حصرها. هذا فضلاً عن اتّساع الحيّز الزمنيّ المُخصَّص لها مقابل الزمن المُخصَّص للمهنة والأعمال المُرتبطة بقضاء الحاجات الفيزيولوجيّة كالنوم والأكل والملبس والتنقّل... وتنامي الوعي لدى الأفراد، من الشرائح الاجتماعيّة كافّة، بأهميّة الوقت الحرّ في تحقيق الذّات ورفاهيّتها.

يُمكن تعريف أنشطة الوقت الحرّ بكونها مجموع مَواقف ومُمارسات الترفيه والتسلية الإراديّة التي يُنجزها الأفراد بكامل الحريّة، والتي لا تخضع لمَنطق الالتزامات المهنيّة والقيود الاجتماعيّة، سواء كانت أُسريّة أم اقتصاديّة أم سياسيّة أم روحيّة. فالوقت الحرّ يتمّ تعريفه سلبيّاً كمُقابِل لوقت العمل، إذ إنّ ما يتبقّى من الوقت الذي لا يشمل العمل والإنتاج يُعتبَر وقتاً حرّاً. وقد لخَّص السوسيولوجي ديما زيديي Dumazedier. J وظائفه في ثلاث: الاسترخاء؛ الترفيه؛ وتنمية الشخصيّة، فهو: «مجموع الاهتمامات التي يُمكن للفرد أن ينخرط فيها طوعاً، سواء من أجل الاسترخاء، أم من أجل التسلية، أم من أجل تطوير معلوماته أم تدريبه الغيري، ومشاركته الاجتماعيّة الطوعيّة، أم قدرته الإبداعيّة الحرّة بعد أن يتحرّر من التزاماته المهنيّة، العائليّة والاجتماعيّة» (Vers une Civilisation du Loisir,1963).

النساء والوقت الحرّ

تؤكِّد المَعارف المتوافرة حول الوقت الحرّ والترويح عند النساء هامشيّته على الصعيد المَعرفي والعِلمي، حيث تندر الأبحاث والدراسات حوله. والأمر ليس ناتجاً عن جهل أو عن غياب الوعي بالانعكاسات الإيجابيّة للوقت الحرّ على النساء، فيزيولوجيّاً وعقليّاً ونفسيّاً، وإنّما بسبب استمرار تأثير مجموعة من العوامل الذاتيّة والموضوعيّة المرتبطة بالبنية الأسريّة، والظروف الاقتصاديّة والنّوع الاجتماعي والتصوّرات السائدة والمفاهيم الرائجة، والتي نسجّل منها ثلاثة ذات أهميّة قصوى:

1- الأيديولوجيا التنمويّة وآثارها العكسيّة على الوقت الحرّ

إذا كانت الأيديولوجيا التنمويّة هي أيديولوجيا لإعادة امتلاك الذّات واستقلالها وتحريرها من كلّ ما يعيق حريّتها، فإنّها أسهمت عكسيّاً في تهميش الوقت الحرّ لدى النساء، باعتباره وقتاً غير مُنتِج. إنّ التنمية بكلّ ما تحيل إليه من مضامين اقتصاديّة قوامها الإنتاج والدخل الفردي والرفاه المادّي، قد نتج عنها إقصاء كلّ ما يحيل إلى غياب العمل والعطالة واللّاإنتاج Oisiveté. لقد كان الهدف هو إقحام النساء في عالَم العمل باعتباره عامل تحرير من الأيديولوجيا البطريركيّة، ومن نتائجها على مستوى توزيع الأدوار داخل الأسرة وتقسيم العمل المنزلي. فتحت تأثير السوسيولوجيا الكولونياليّة التي كانت تُدرج المغرب في خانة المُجتمعات المتخلّفة، وتُدرك التخلّف كخاصيّة جوهريّة مُلازِمة لتلك المجتمعات، والتي تتجلّى بشكل أساسي من خلال خصائصها الثقافيّة والسوسيو اقتصاديّة: سيطرة المُعتقدات الخرافيّة كالسحر، سيادة تقسيم اجتماعي للعمل بدائي، تخلّف قوى الإنتاج، غياب التصنيع وضعف النموّ، سيادة تصوّرات غير عقلانيّة وغير نفعيّة للزمن والوقت... تمّ تأسيس سوسيولوجيا التنمية والتحديث خلال ستينيّات القرن الماضي، والتي حافظت على الخطاطة التصوريّة نفسها. وفي النتيجة فإنّ الخطاطات التنمويّة التي تمّ اقتراحها كبدائل كانت تُكافِح ضدّ الاستعمالات غير العقلانيّة وغير المُنتجة للوقت والعمل، بمعنى أنّها حاولت التخلُّص من كلّ ما لا يخضع لمنطق العقلنة للزمن التقني وللعلاقات الاجتماعيّة. قتمّ تبخيس الوقت المخصَّص للالتزامات العائليّة والعصبويّة، والأشكال التنشئويّة التقليديّة والالتزامات النابعة من الوازع الديني أو الأسري.

هذه الافكار كان مُسلَّماً بها حتّى من طرف المؤسسات الدوليّة المهتمّة بالتنمية (الأُمم المتّحدة ووكالاتها، البنك الدولي، صندوق النقد الدولي...) بل امتدّ تأثيرها الى المنظّمات الوطنيّة المكوِّنة لنسيج المجتمع المدني (منظّمات غير حكوميّة، جمعيّات مدنيّة...). فتأسيساً على الخلفيّة الحداثيّة كانوا جميعاً يتبنّون المَسار التنموي الذي بمُقتضاه يكون العمل الأجير أسمى مُكتسبات الحداثة اللّيبراليّة. لقد تكاثفت المؤتمرات والندوات والبَرامج والسياسات والتدابير من أجل تأجير وتحسين المردوديّة الانتاجيّة والاقتصاديّة للنساء لبلوغ غايات استراتيجيّة أهمّها: تخفيف عبء الأعمال المنزليّة؛ تسهيل هذه المَهامّ من خلال تكنولوجيا منزليّة حديثة؛ إعادة توزيع العمل داخل الأسرة؛ توجيه النساء نحو فُرص وبدائل جديدة؛ تشجيع الإنتاج الحرفي الذي يشتغل بمنطق السوق؛ تشجيع النساء على العمل التعاوني الحديث؛ تعميم التمدرس ومحو الأميّة؛ تعميم بَرامج الصحّة الإنجابيّة، وذلك لتخفيف الأعباء المنزليّة على المرأة قصد إدماجها في منظومة السوق كيد عاملة وليس استجابة لتطلّعات النساء المُرتبطة بالترفيه والتسلية والترويح؛ ما يعني أنّ فكرة الوقت الحرّ ووقت الترفيه كانت غائبة نسبيّاً عن وعي جماعات القيّمين على التنمية.

فخُبراء التنمية، وبتبنّيهم توجيهات البَرامج الدوليّة، وإدراجهم مَسائل أساسيّة في توجّهاتهم كعدم التمييز والمساواة والتحرّر والاستقلاليّة، كان يحرِّكهم في الواقع الدافع الاقتصادي المحض وتؤطِّرهم مرجعيّة الاختيار العقلاني، التي لم تكُن تتلاءم مع الوقائع الملموسة للمرأة العربيّة، ولا سيّما تلك التي تعيش في الأوساط الريفيّة وغير المحظوظة؛ فعلى سبيل المثال ولوج المرأة سوق العمل كان في الغالب تحت تأثير الإكراهات الاقتصاديّة والاجتماعيّة، أي تحت تأثير الأوضاع السوسيو اقتصاديّة السيّئة، وليس بهدف إثبات الذّات والتحرُّر من السيطرة الذكوريّة.

2- العوامل الاقتصاديّة وآثارها على الوقت الحرّ

إذا كان عمل المرأة يُسهم في دعم الميزانيّة الأسريّة، فإنّه يوظَّف لتلبية الحاجات الأساسيّة أكثر من توظيفه للتمتّع بأنشطة الترفيه. كما يُمكن مُلاحظة أنّه في الحالات التي يقبل فيها الزوج بعمل المرأة خارج البيت، فإنّ ذلك لا يعني منحها إمكانيّات فعليّة للاستقلال وتوظيف المال الناتج عن العمل بحسب رغباتها وتطلّعاتها. وبالمحصّلة، فإنّ المرأة إذا كانت قد نجحت في فرض ذاتها داخل الفضاء العامّ كقوّة عمل مُنتِجة ومتحرِّرة من سطوة النّزعة البطريركيّة، فإنّ ذلك لم ينعكس آليّاً على الفضاء الخاصّ، حيث لا زالت تعاني من انعكاسات السيطرة الذكوريّة على تدبير مداخيلها الماليّة وتدبير النفقات المنزليّة.

ففي أغلب الأسر الفقيرة والمتوسّطة تكون المرأة منزوعة السيطرة على دخلها وعلى الوقت غير المخصَّص للعمل، حيث يتحوّل هذا الأخير إلى وقت للعمل المنزلي، وبما يُعزِّز استغلال المرأة وتكريس التمييز ضدّها واللّامساواة.

3- تأثير علاقات النَّوع والتمثّلات على الوقت الحرّ

على الرّغم من التطوّر الملحوظ منذ ثمانينيّات القرن الماضي لمُجتمع الاستهلاك والترفيه (انفجار الحاجات الاستهلاكيّة، انتشار الثقافة الجماهيريّة، ازدهار السياحة الترفيهيّة، تكاثُر المهرجانات والمَواسم...)، إلّا أنّ دَور المرأة ومَكانتها داخل عمليّة الإنتاج البيولوجي والمادّي والرمزي يعوق تطوّر الترفيه النسوي. فعلاقات النّوع، المتأصِّلة ثقافيّاً وتاريخيّاً، لا تزال تقف حجر عثرة أمام انبثاق زمن حرّ لمصلحة النساء. وإذا كان انفجار الطلب الاجتماعي على الخيرات الاستهلاكيّة والترويحيّة بتأثيرٍ من التحوّلات العميقة التي عرفتها المُجتمعات الحضريّة قد أسفر عن تحوُّل النسيج الاجتماعي الحضري، وخصوصاً البنيات الأوّليّة كالعائلة والقرابة والتضامن الآلي، فإنّ إعادة النظر في العلاقات الجنسيّة لم يُطاولها التغيير بشكلٍ كبير. وإذا كانت هناك مظاهر عدم رضا ورفض للعلاقات الجنسيّة السائدة، فإنّ ذلك لم يصل إلى حدّ إحداث تغييرات كبيرة في المؤسّسات والعقليّات. وإذا كان المجال العامّ يبدو أكثر تسامُحاً تجاه إعادة النظر هذه، فإنّ المجال الخاصّ لا زال مَحميّاً ومُقاوِماً للتغييرات.

ختاماً، هل يُمكن أن نفترض عكسيّاً، بأنّ المرأة «غير الخاضعة» والتي تنجح في التخلُّص من ثقل التقاليد والعادات الاجتماعيّة الرديئة ومن سطوة البنيات الأوليّة، هي المرشَّحة الأوفر حظّاً للتمتّع بحريّة أكبر في استعمال قدرتها الماليّة والتمتّع بوقتها الحرّ؟ هل يُمكن الاستنتاج بأنّ الوقت الحرّ يصبح بمثابة «خير Bien» في مُتناول المرأة التي تتحرّر من الوصايّة الذكوريّة، والتي يكون وضعها الاجتماعي والمهني مرتفعاً نسبيّاً؟ لكن ألا يؤدّي استمتاعها بالوقت الحرّ وتحقيق استقلاليّتها وحريّتها إلى إلقائها على هامش المجتمع، ويُعرِّضها لمُختلف الأحكام النمطيّة والتهميش والإقصاء، وبما يُبرِّر كلّ أنواع العنف المادّي واللّفظي والجسدي والجنسي والرمزي؟

عصام العدّوني
كاتب من المغرب