بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 شباط 2020 12:00ص انتحروا جماعياً!

حجم الخط
قال عليٌّ: اني أرى الرجل فيعجبني، فأسأل هل له عملٌ؟ فإن قيل لا، سقط من عيني!

نحن اليوم في زمن يسأل عن إنسانٍ فرد، فان أورد اسمه خلواً من النعوت نُبذ وسقط من العيون، وإن ذُكر يخفره حرسٌ من الألقاب خُفضت له الهامُ احتراماً واحلَّ المقام الرفيع. مع ان هذه الألقاب وتلك النعوت، أصبحت في أكثر الحالات لا تعني شيئاً، إذ لا تمثّل حقيقة ولا تدلّ على فضل، وغدا حكمها كحكم كل شيء تسقط قيمتُه متى كثر، وترتفع متى قلَّ!

انه مرض أخلاقي فشا في الناس خصوصاً بعد الحرب وتناول معظم «كبارنا»، نعني به الدعوة والدعوى والاثرة والتفيُّش. قلتُ معظمهم ولم أقل كلهم، لاننا لم نُعدَم والحمد للّه، فئة تشابه السنبلة المثقلة كلما ازدادت معرفة واختباراً ونضوجاً، ازدادت وقاراً وتواضعاً وانتاجاً، وتدرك ان الزهرة العطرة يفوح عطرها وإنْ اخفتها عن الأنظار الأشواك والأدغال، وان الزهرة اللاعطرة لا يرجى طيبها وان علَت الصدور ووضعت على الرفوف. وإنما نعني الفئات الوقواقة التي تقلق الناس كلما خطّت حرفاً أو لفظت كلمة أو تصدّرت مجلساً أو نهبت مالاً... لانها لا تفعل ما تفعله، حتى إذا اتفق ان سما أحياناً، حبّاً بما تكتب أو رغبة في المصلحة العامة، بل لتجعل من فعلها بوقاً يزمّر باسمها أو يكسبها الربح السهل والسريع.

يريد شعبنا المنتفض هذه الأيام، ولو في عمق أعماقه، أناساً يغارون على ما يفعلون، لانه مأثرة في ذاتها، ويفقهون ان المسؤول المنزّه المبدع هو الذي يقوم بواجبه مدفوعاً بقلبه وروحه كما يغرّد الطائر مدفوعاً بطبعه، واتباعاً لمشيئة الناموس الكلي. نريد كل مسؤول مبدع ينظرون الى ما يقوم به نظرة جديّة ويتوخون منه غير ما يتوخى التاجر من عرض سلعته، لانَّ العمل المنزَّه المبدع شوقٌ في النفس ولجاجة في الصدر، وليس مادة تكيّفها الأغراض وألعوبة يتلهّى بها صاحبها!

يتهافت معظم مسؤولينا قبل سواهم، على شؤون الحياة الخاصة تهافتاً غريباً لا يزال يؤدّي الى الفوضى، وعاقبة الفوضى، كما نرى اليوم، المفاسد والتسفُّل لا سيما في الأخلاق وأضرب لذلك مثلاً الثورة الفرنسية وما عقبها من القبائح والمخازي، على الرغم من ان أساسها هو الفلسفة والفكر النيّر خلافاً لما يحصل عندنا اليوم.

الهوس والزيغ والتبهنس، ثم الأنانية بأشكالها المقيتة، قد اجتاحت كل الطبقات وإنما بدرجات، وسَطَتْ على العقول فلم يسلم منها إلا أفرادٌ في كل أمة هم كالأجسام التي وُهبت مناعة طبيعية تدرأ عنها الأمراض.

المسؤولية توجب على من يتحمّلها جانباً من الزهد في الدنيا. المسؤولية تستنطق الجماد وتستنزل الإلهام. وما نفع الصور المرتسمة في حسّنا إنْ عُدمنا البيان؟ ما قيمة الحجر الكريم إنْ لم يُصقَل فيشرق؟ وكذا الحياة العامة قبل الخاصة، ما قيمتها إن لم نعبّر عن أغراضها ونمثّل شؤونها ونلطّف آلامها وننشر معانيها ونرسم صورها بهذا الشيء الذي ندعوه الأدب المشبَع ثقافة وسموّاً مجنّحاً؟

ان هوس الشهرة الرخيصة والتنافس على الألقاب والتهافت على المال الحرام، قد تفشّى فيها كلها داء الغيرة، والمسؤولية المرتهنة الخاملة لا تنفع فيها دعوة مهما عظمت، ولا ترفعها ألقاب مهما ضخمت. أما نتاج المفكّرين والملهمين الذين تبقى مآثرهم على مرّ السنين، فلا يحتاجون الى لقب أو إغراء مادي مباشر. ذلك ان ديونهم هو شاهقات القَيِم والقمم!

أيها المبدعون الملهمون، تحرّكوا في مقدّمة الانتفاضة الشريفة القائمة، وإلّا فانتحروا جماعياً!


أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه