بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 أيار 2018 01:01ص بين شهر رمضان والمبدع علاقة أزلية

حجم الخط
يأتي شهر رمضان الكريم منذراً بالتوبة مبشّراً بالغفران..يتوغل في تعرّجات الروح ويسبر جنون القلب وتحولاته وتقلّباته، فمن منا لم يزره إبليس يوماً في اللظى الكامن بين العين والجبين؟ ومن منا لم يتسمّر في قوارير الخطيئة حيناً ثم ينأى مستغفراً الله يمد كفه للغيم الأبيض البعيد علّه يجتبي من عين الشمس ما تيسّر من النور الذي تتوقه الأنفس الضالّة؟
لكن سوانح المبدع تجعل ما يتراءى له في طيف رمضان همساً فائضاً من التقمص الصوفي البحت، فلنبحث قليلاً بعلاقة المبدع بهذا الشهر الفضيل.
فالفرزدق كتب أبياتاً من البحر الطويل تجمع النقيضين، اعلانه بصيامه وتبرمه بطول الصيام فيفكر بالأراجيح، ولكنه أبدع بأسلوب مجازي لم يعرّف عنه في البداية لاختلاف أسلوبه وهمسه العذب فقال:
إذا ما مضى عشرونَ يوماً تحركت
أراجيفُ بالشهرِ الذي أنا صائمه
وطارتْ رقاعٌ بالمواعيدِ بيننا
لكيْ يلتقي مظلومُ قوم وظالمهْ
وأنشد ابن الرومي قائلاً في الشهر الفضيل وقد تعمّق احساسه بطول الساعات:
شهر الصيّام وإن عظَّمت حرمته
قيل الظلّ والحركه
نمشي الهوينا وأما حين يطلبنا
فلا السّليك يدانيه ولا السّلكه
أما عن الاستحسان الذي يحتفي به بعض الأدباء برمضان، نأخذ مثالاً عميد الأدب الدكتور طه حسين عندما كان يحشد الصور المجازية والأدبية ليعبّر عن لحظات الإفطار في رمضان فيقول في وصفه الفائض بالحماسة والجماليات: «فإذا دنا الغروب وخفقت القلوب, وأصغت الآذان لاستماع الأذان, وطاشت نكهة الطعام بالعقول والأحلام ‏,‏ فترى أشداقا تنقلب وأحداقا تتقلب بين أطباق مصفوفة وأكواب مرصوفة ‏,‏ تملك علي الرجل قلبه وتسحرلبه بما ملئت من فاكهة وأترعت من شراب‏ ,‏ الآن يشق السمع دوي المدفع‏ ,‏ فتنظر إلي الظمآى وقد وردوا الماء‏,‏ وإلي الجياع طافوا بالقصاع». وقد كان للصيام موقع الفلسفة عند طه حسين فقد تجلّت الصور الروحية بأبهى حواشي السحب التي تغشاها روح اللازورد المنتشي بروعة الخلق، فعبّر عن هذا في كتابه  «مرآة الإسلام» بشكلٍ معمّق مستدير كنقش منمّق يبدأ بالخالق ويعود إليه.
فرغم حرمانه من نعمة البصر إلا أنّ الله أغدق عليه بنعمة التبصر الشديد، فكان احساسه يفوق احساس المبصر بالتمعن وقدرة التجلّي، وقد أثنى على عبارة المسامحة التي تعني له الراحة والدعة المرتسمة في كيانه كمبدعٍ كبير.
أما الروائي يوسف السباعي الذي كتب رائعته «بين الأطلال أذكريني» وتحولت إلى فيلم سينمائي لاحقاً، فقد قال أنه استوحى من شهر رمضان كل هذا الزخم من الحب الذي دسّه على متن الرواية منطلقاً في حبّ عذري مستحيل، لم يلمس الأرض ولكنه لامس السحاب، فكان يلبس سروالاً قصيراً ويضع قدميه كل يوم في الماء البارد بسبب الحر الشديد، ويكتب كل يوم فصلاً إلى أن انتهى من كتابة الرواية، وهكذا ساعد شهر رمضان في تشكيل ملامحها وابراز معالمها، فكان الصيام يكتنف ظلّ الإبداع المتأصل في قلم راويه.
وقد تمعّن الروائي احسان عبد القدوس في طقوس رمضان في مصر عندما كتب رواية «في بيتنا رجل» التي تحوّلت بدورها إلى فيلم سنمائي، وكتب بتفصيل جميل الرحاب بعضاً من العادات التقليدية في رمضان واجتماع الأسرة، فسطعت البيوت كحجارة من السنا في هذا الشهر الفضيل  في عزّ الأزمة السياسية التي كانت تمر بها مصر.
وفي ثلاثية الأديب الكبير نجيب محفوظ، «بين القصرين، قصر الشوق، والسكرية» سطعت ظلال من أنوار الشهر الفضيل بقصة مقتبسة من عمق الواقع، تحدث في شهر الصيام وتلخّص واقع الأسرة المصرية ومجتمعها وبيئتها المحيطة بها بشكلٍ أيديولوجي متماسك البنيان.
اما الأديب الكبير جبران خليل جبران والذي كان يكنّ احتراماً للدين الإسلامي والقرآن الكريم، فقد كتب قصيدة تعبّر فيها عن هلال رمضان قائلاً:
هل الهلال فحيوا طالع العيد
حيوا البشير بتحقيق المواعيد
يا أيها الرمز تستجلي العقول به
لحكمة الله معنى غير محدود
والعلاقة بين شهر رمضان والمبدع هي علاقة سريّة معلنة في نفس الوقت، إذ تفصح عما تريد الإفصاح به وتظل جوانبها الخفية تلوح في المدى البعيد لتطلعاته ورؤاه الفلسفية الميتافيزيقية التي تغدق على الكون لون الحلم الصوفي الزاهي بألوان الفصول الراحلة.
نسرين بلوط