بيروت - لبنان

اخر الأخبار

20 تشرين الثاني 2019 12:00ص بين فاعليَّة «اللِّسان» وواقع «اللُّغة» (الحلقة الثالثة والأخيرة) مِنَ المُشكِلَة إلى القضية

د. وجيه فانوس د. وجيه فانوس
حجم الخط
اكتسبت، جوانب كبرى وأساس، من العربيَّة ما يمكن وَسْمُهُ بـ «المُحَرَّم»  «Taboo» اللّغوي؛ الأمر الذي دفع بكثيرين إلى الاعتقاد بجمودٍ يلحق بإمكانيَّات كثيرة تصيب تطوُّر العربيَّة أو معاصرتها؛ إذ يرى هؤلاء أن مساساً ما قد يلحق بأمور ذات صلة بالدِّين والتُّراث والتَّواصل العربيِّ إذا ما جرى تعديلٌ، أو تغييرٌ ما، في مجريَّات اعتماد العربيَّة الفُصحى. 

تكمن المسألةُ الكبرى التي يعانيها أهل العربيَّة، كما المتعاملون بها ومعها؛ في أنَّ النَّصَّ القرآني العربيَّ دُوِّن بـ «لسان» عربيٍّ ولكن بمنطوق «لغة» هي لغة قريش، وهي إحدى لُغات اللِّسان العربي؛ التي عادت وتوزَّعت، بدورها، إلى لهجاتٍ مناطقيَّةٍ واجتماعيَّةٍ عديدة. ومع اعتماد المسلمين للغة قريش هذه ، ضمن اللسان العربيِّ، في قراءة النَّصِّ القرآنيِّ، صارت هذه اللغة، من دون سواها من لغات اللسان العربيِّ، بمثابة لسان؛ عِلماً أنَّها، وبحكم كونها لغة، أي متغيِّرة ومتبدِّلة، لا تملك المقوِّمات الأساسيَّة للِّسان القائمة على الثَّبات!

قد يرى بعضهم في أخذ لغة قريش ضمن اللسان العربيِّ دور هذا اللِّسان مشكلة، وهذا صحيح وواقعي؛ لكن الاستمرار في اعتبار هذا الأمر مشكلة، وبشهادة الواقع اللغوي العربي القديم منه والمعاصر على حد سواء، لا يمكن أن يشكِّل حلاًّ عملِيَّاً للمشكلة على الإطلاق؛ بل إنَّه حلٌّ يُوَلِّد عدداً لا حصر أو انتهاء له من المشكلات. فثمَّة مشاكلٌ دينيَّة، ومعها مشاكلٌ فقهيَّةٌ، وأخرى تاريخيَّة وثالثة ثقافيَّة، ويلتحقُّ بكلِّ هذا فيضٌ من المشكلاتِ التي قد ترتبط بِرُؤىً مُعَيَّنة إلى مفاهيمِ ذات علاقة بما يمكن تسميته بثبات الهُوِيَّة والوحدة القوميَّة في بُعديها الاجتماعيِّ والسِّياسيِّ؛ ومن هنا، وحفاظاً على لغة تدوين النَّصِّ القرآنيِّ، ممثَّلةً بلغة قريش، وحفاظاً على فاعليَّة دور كلٍّ من اللِّسان بثباتيَّته واللُّغة بحركيَّتها، كان لا بدَّ من تحويل «المشكلة» إلى «قضيَّة»؛ والنَّظر فيها على هذا الأساس.

تتلخَّص القضيَّة في أن لغة، متحرِّكة، لا بدَّ من تعامل معها على أساس أنها لسان ثابت؛ إذ لا يمكن إيقاف حركيَّة اللُّغة ولا يمكن، كذلك، التَّخلِّي عن أساسيَّة ثبات اللِّسان. من هنا، لا بد من الاعتراف بحقِّ ما يعرف بـ «لغة قريش» في التَّطوُّر والتَّجدُّد ومواكبة البيئة الزمانيَّة والمكانيَّة والمزاجيَّة التي تكون فيها؛ وضروة اعتبارها لساناً ثابتاً يمارس عبره النَّص القرآني احتفاظه بثباتيَّاته التي تفرضها قدسيته وتتطلبها مبادئ الإيمان الدِّيني به.

إنَّها قضيَّة لا بدَّ من تنظير خاص بها من خلال تأمين عيش سويٍّ لها. وأساس هذا كله يبرز عبر إشكاليَّة مفادها أنْ كيف لناس العربيَّةِ الاستمرار في التَّواصل عبر هذه «اللغة» التي لا بدَّ من الاعتراف بحركيَّتها، والتي صارت «لسانا»، وهي لا تمتلك مقوِّمات اللِّسان ولا تقدر أن تحلَّ محلَّه على الإطلاق؟! 

لعلَّ في البحث عن ما يمكن اعتباره العربيَّة الأساسيَّة المعاصرة ما قد يقود إلى حُسْنِ تعاملٍ مع هذه القضيَّة. والمقصود بالعربيَّة الأساسيَّة، ههنا، هو تحديد الحد الأدنى الضَّروري والذي لا يمكن الاستغناء عنه من مقوِّمات لغة قريش، أي العربيَّة الفصحى بالمفهوم المعاصر، لتشكِّل أساساً ثابتاً في التَّعامل مع هذه اللُّغة. وبذا، يمكن تأمين للُّغة المتحرِّكة الحدَّ الأدنى العضوي في فاعليتها اللسانيَّة. وبناء على النتائج المتوخاة من هذا الاقتراح، سيمكن للعربيَّة الفصحى، أن تظلَّ متمسِّكة بالأسس اللسانيَّة التي توفِّر إجماعاً عربيَّاً للتَّواصل معها، عبر الماضي والحاضر والمستقبل وبشكل خاص عبر النَّص القرآني العربي؛ وتكفل لها، في الوقت عينه تلبيَّة كل تحوُّلاتها ضمن متغيِّرات البيئة الزمانيَّة والمكانيَّة والمزاجيَّة لناسها.

بناء على هذا، لا بدَّ من إيجاد هيئة أو لجنة أكاديميَّة متخصِّصَة، تحظى باعتراف علميٍّ واسِع، وتكون ذات موثوقيَّة لا غبار عليها، تعمل على اعتماد ما يمكن اعتباره اللغة العربية الأساسية المعاصرة التي لا تغادر أبدا أصول عربية قريش ومبادئ اللسان العربي معاً، ولا تخون، في الوقت عينه، تطوّرات الزَّمن وتغيّراته. ولعلَّ في مثل نشاطات هذا المؤتمر الذي نحن في رحابه، ما يمكن أن يشكِّل نواة لإيجاد هذه اللُّجنة والبحث العمليِّ الجديِّ في تصدِّيها لهذه القضيَّة الأساسيَّة في دنيا تطور العربيَّة وفاقاً لمتغيرات موضوعات الزَّمن معطياته المعرفيَّة والاجتماعيَّة، ومحافظتها، في الوقت عينه، على أصالتها وعدم تضييع علاقتها بالنَّصِّ القرآني منطلق الحياة الإسلاميَّة وأساسها.

الجانب الآخر، من أهليَّة العربيَّة لتكون لغة حوار ثقافيٍّ ينمِّن ناسها من تبوُّء موقع إيجابيٍّ لهم في العيش المعاصِر، أو تأمين وجودٍ لهم ينماز بكونهِ فاعلاً ومنتجاً، في رحاب حيويَّة المعاصَرَة وليس مجرَّد وجودٍ يكتفي بتحقيق ما لفاعليَّةِ التَّلقي، فيكمن في قابليَّة العقليَّة العربيَّة من أن تتحوَّل من كونها عقليَّة مُسْتَهْلِكَةٍ إلى كونها عقليَّة مُنْتِجَةٍ. إنَّ من ينتج موضوعاً، فكرة أو اختراعا أو سلعة؛ فإنَّه، إذ يُنتج ما ينتجه، يعمل، كذلك، على تعريفه وشرحه وتبيان مافيه وعرضه وحتَّى تسليعهِ إلى الآخرين، باللُّغة التي فكَّر بها فيه. من هنا، فإنَّ ما من حلٍّ جذريٍّ يُنقذ العربيَّة من عدم تسنُّمها ريادة لغويَّةً، على مستوى التَّحاور الثقافيِّ للوجودِ الإنسانيِّ المعاصر المُتَحَضَّرِ، إلاَّ بتحوُّلِها من مجالاتِ العقليَّةِ الاستهلاكيَّةِ إلى رحاب العقليَّة الإنتاجيَّة.

  رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي