22 أيلول 2020 12:00ص ترويض الشعوب للركوب

حجم الخط
كنت في عمر الفتوّة، حين أهدى أبو إلياس، أحد وجهاء بلدة عندقت، والدي هدية، لا أزال أتذكّرها حتى الآن، بعظيم الدهشة والإنبهار والترحيب والحبور.

كان والدي يصطحبني معه أثناء زيارته له صباح كل يوم أحد.

إن أنسى، لا أنسى لطفه ودماثته، وحبّه للناس وحسن إستقبال الضيوف. لا أنسى كرم السيدة زوجته أم إلياس، حين تباشر بعد الفجر بقليل، إعداد المائدة القروية والطعام القروي والمدقة القروية، لضيوف «أبو إلياس» ظهيرة كل يوم أحد.

في أول الصيف، أواخر شهر أيار، كان أبو إلياس، يغادر عندقت إلى عودين. كان له هناك خير لا بأس به، وكان له خير على الضيوف والمؤنسين.

أذكر إذ أذكر، زيارتنا له في أواخر أيلول، قبل موعد عودته إلى عندقت مع مطر تشرين.

كان يودع أغراضه في غرفة، خلف المصطبة العظيمة. وكانت «أم إلياس» زيّنت هذه المصطبة، المزينة والمشغولة، بكل أغراس الزهور والرياحين والورود.

كان «أبو إلياس» يربط دابته، إلى التينة المجاورة في العزق التحتاني. وكنت، إذا ما إنشغلوا بالمائدة و«دق الكاسات بالكاسات»، أنصرف، إلى الجلول، أنقر العصافير بـ «النقيفة». ثم أعرج إلى الدابة المركونة، أصعد وأهبط على ظهرها، بواسطة «المعركة»، التي جعلها لها، لعظم دابة «أبو إلياس».

أذكر مرة، أن والدي ناداني لوداع «أبو إلياس»، والعودة إلى البيت. فوجداني أملّس ظهر الدابة، وبطنها المكتنز. ووجدا فيّ خفّة إعتلاء ظهرها صعودا، ورشاقة النزول عن ظهرها. كنت مغرما حقا، بالصعود والنزول من على ظهر الدابة. كانت رشاقتي وخفّتي، تساعدني على إعتلاء الفرس، والإتيان بها، من قرية إلى قرية، وكأني على دراجة هوائية.

نظر إليّ «أبو إلياس»، وأفرحني وأسرّني وأغبطني، بأنه سيهدي والدي «نتاج» دابته بعد شهرين.

انتظرت ذلك بفارغ الصبر. وأزفّ الموعد، وخرجت وحدي، إلى بلدة عندقت، أسوق الدويبة الصغيرة، وقد ربطها «أبو ألياس» في زناري، بعد أن تأكّد من وضع اللجام الصغير من الجلد في فكها.

سرنا الهوينى معا، زهاء خمسة كلم. نصعد الطريق المتعرجة، وننزل الطريق المتعرجة ونستمتع بهبوب نسائم أيلول علينا، عصر ذلك اليوم الجميل.

كنت أشفق على دويبتي الصغرى من إعتلاء ظهرها. ولكن والدي، خشي عليّ، من أن تنشأ مودة الأخوّة بيننا. فنصبح رفيقيّ درب وشريكي جهاد، مثل لبنان والشجرة. ويصبح إعتلاؤها حراما عليّ.

طلب مني أن أروّضها للركوب، لم أفهم قصده. قال: إن الدابة تحتاج للترويض للركوب، وإلا خلعتك عن ظهرها، ورمتك أرضا. وربما آذتك فوطأتك إنتقاما لكرامتها. هي تحتاج لفترة ترويض، لأسابيع وربما لأشهر حتى تتعوّد ركوبها.

أذكر أنني قاسيت معها الأمرّين: كانت تعتبرني رفيقا لها، من الرفاق أو الرفقاء، لا فرق. ولذلك أبت واستكبرت واستهجنت، إصراري على ترويضها.

دام الأمر بيننا زهاء الأشهر على هذه الحال. ردّ والدي السبب، للأخوّة التي نشأت بيننا. قال أن الأخ لا يصعد ظهر أخيه، وأن الرفيق لا يصعد ظهر رفيقه، وأن الأب لا يصعد ظهر أبنائه، وأن الرئيس لا يصعد ظهر شعبه.

كان النبي، حين هاجر إلى المدينة، قد جعل رسن ناقته بيده، يحاذي رأسها وئيدا وئيدا ومولاه عليها. فإستقبله الأنصار، كل يريد إناختها في داره، فقال لهم: «دعوها فإنها مأمورة». فأخذت طريقها إلى «بني النجار»، وأناخت في دارتهم.

كيف إستحلّ دولة الرئيس الفلسطيني، الأخ والقائد الحمساوي الغزاوي، رئيس مكتب حماس، إسماعيل هنية، أن يصعد ظهر أخيه، أن يطوح بنفسه على ظهره، أن يهتف بالنصر على العدو، عشية إحراق العدو لمرفأ بيروت، عشية إحراق العدو لبيروت، عشية إحراق العدو للبنان.

يهدّد الأخ إسماعيل هنية العدو، بالويل والثبور وعظائم الأمور، وهو يركب رأسه لمناطحة العدو، والعدو يركب طائرته لقصف الجولان ودمشق وحلب وجنوب لبنان. عباس هنية يركب الشعب ويدخل عين الحلوة دخول الفاتحين، بعد أن ترجّل أبو مازن، وقبله ترجّل أبو عمار، والعدو يعربد في سماء لبنان ودمشق وفلسطين. أراد الأخ المجاهد، إسماعيل هنية تسجيل نقطة، ولكنها كانت سقطة سقطت في المرمى الخاطئ.

متى يبطل الأخوة الزعماء، إتباع عادة كريهة: ترويض الشعوب للركوب؟ متى يبطلوا جميعهم: ركوب الشعوب؟ إلى متى يظلون على عادتهم يروّضوننا لركوب العدو لنا؟ تلك هي المسألة.

د. قصي الحسين

 أستاذ في الجامعة اللبنانية

أخبار ذات صلة