بيروت - لبنان

اخر الأخبار

4 آذار 2020 12:02ص تكريماً للذكرى السنوية التاسعة والخمسين لوفاة شاعر الشعب «عمر الزعني»: «الأُستاذ حُنَيْن» (3)

د. وجيه فانوس د. وجيه فانوس
حجم الخط
 بَرَزَ عُمَر الزّعِنِّي بالنَّشاط الأدبيٍّ، عبر نظم الشِّعر بالمحكيَّة البيروتيَّة، والنَّشاط ِالمسرحيٍّ، من خلال مشاركته، بِدْأً مِن سنة 1920، في تمثيل مسرحيَّة «جابر عثرات الكرام»؛ التي وضعها الشَّيخ «رائف فاخوري»(1). جرى تقديم هذه المسرحيَّةِ من على «مسرح الكريستال»، في بيروت؛ وكانت مشاركة الزعني في هذه المسرحيَّة بتأديته لشخصيَّة شاعر اسمه «حُنَيْن»؛ كما كان يقدِّم، خلال محطَّات الاستراحة بين فصول المسرحيَّة، وعلى عادة العرضِ المسرحيِّ في تلك المرحلة، «وصلةً» مُغَنَّاة من منظوماته الانتقاديَّة الوطنيَّة والاجتماعيَّة. ولمَّا كان الزعني، وقتذاك، موظَّفاً حكوميَّاً في وزارة العدل، يعمل مساعداً قضائيَّاً في «محكمة بيروت»؛ فقد كان ممنوعاً عليه، إدارِيَّاً، الظُّهور المسرحيُّ والغناء؛ ولذا فإنَّه اتَّخذَ لنفسه اسماً فنِيَّاً يُعرف به؛ ولعلَّه استوحى هذا الاسم مِنَ الشَّخصيَّة التي كان يؤدِّيها في مسرحيَّة «جابر عثرات الكرام»؛ فاشتُهِر، ولسنين عديدة بعد ذلك، باسم «الأستاذ حُنَيْن».

بَدأ عُمر الزِّعنِّي اندفاعة في الحضور الانتقاديِّ السِّياسيِّ والاجتماعيِّ بالأغنيَّة؛ فسار، إنطلاقاً من تلك الوقفةِ له، سنة 1920 على خشبة مسرح «الكريستال» في بيروت، إلى حين وفاته سنة 1961، حتَّى أقصى حدود التَّجربة؛ ليكون شاهداً سياسيَّاً واجتماعيَّاً انتقاديَّاً شعبيَّاً على وقائع العيش في لبنان؛ وتحديداً على محطَّات أساسٍ من تاريخ لبنان في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، وحتَّى نهاية العقدِ الأوَّلِ من النِّصف الثَّاني من ذلك القرن.

تعاظمت شُهرة عمر الزَّعني، شاعراً انتقاديَّاً جريئاً، في المجالين السِّياسيِّ والاجتماعيِّ؛ وانتشرت قصائده وأغانيه بين جماهير الشَّعب، وخاصَّة تلك القصائد والأغاني التي كان يُهاجِمُ فيها ما يُحيقُ بالوطنِ وأبنائهِ، جرَّاء تعنُّت حُكم سُلطةِ الانتداب الفرنسيِّ. وكان لقصيدته المغنَّاة «حاسِب يا فرنك»(2)، التي هزئ فيها من حالِ التَّدهورِ الاقتصاديِّ، الذي كانت تُعانيه سلطة المُنْتَدَب الفرنسيِّ آنذاك؛ جرَّاء تراجع سعر «الفرنك الفرنسي» أمام العملات الدّوليَّة الكبرى، وقعٌ عظيمٌ على السَّاحتين الشَّعبيَّة والسِّياسيَّة.

حاسِب يا فرنك، يا فرنك حاسِب

فهِّمنا لوين بعدك ساحِب

ما خَلِّيت محب ولا صاحِب

أهلك جافوك، والأجانب:

فرحانين، شمتانين،

ناويين محوك، ما بيناسب

يا فرنك، دخلك حاسب

حاسب يا فرنك وشِد فرامك

شوف المارك والكراون قدَّامَك

من لُطْفَك أو من إنعامَك

ارحمنا نحنا بغرامك

مجبورين، محرومين

طالبين عفوَك وإحسانك

حاسِب يا فرنك وخُد لك دَوْرَه

بتطلع سانتي بتنزل عشرة

مش كل مرَّه بتسلم الجرَّه

الله يجيرَك من هالمرَّة

قولوا آمين، يا سامعين، يا مفلسين

العيشة بعدك مُرَّة

كانت هذه الأنشودة الانتقاديَّة، للزِّعنِّي، من أبرز ما دفع بالمفوَّض السَّامي الفرنسي إلى إصدار قرارين؛ يقضي أحدهما بفصل عمر الزعني، الطَّالب الجامعيُّ في السَّنة الأخيرة من تحصيل الإجازة في الحقوق في الجامعة اليسوعيَّة في بيروت، من الجامعة؛ ويقضي ثانيهما بنقل عمر الزّعنِّي، السُاعد القضائيُّ في وزارة العدل، من مركز عمله في محكمة بيروت إلى محكمة البترون.

 كان لقراري الفَصْلِ من الجامعة والنَّقل من مركز العمل، وقعهما المصيري على حياة الزعني؛ إذ أضطرَّ إلى ترك وظيفة المساعد القضائي، نظرا إلى صعوبة انتقاله المعيشي، زمنذاك، إلى البترون؛ كما هَجَرَ، مرغماً، الدِّراسة في الجامعة اليسوعيَّة. ونتيجة هذين القرارين، وَجَدَ عمر الزعني نفسه ينطلق، مع صديقيه المحاميين، النَّاقد الأدبي عمر فاخوري والشَّاعر صلاح الدِّين اللَّبابيدي، نحو تأسيس مكتبٍ للمحاماة في مدينة بيروت، في إحدى مباني «ساحة السُّور»، «ساحة رياض الصُّلح» حاليَّاً. وكان الفاخوري واللَّبابيدي يقومان بالمرافعات القانونيَّة أمام القضاء؛ في حين يعمل الزعني على متابعة الأمور الإدارية والمكتبية الخاصة بالدَّعاوى التي تناط بالمكتب. ومن جهة أخرى، كان للزعني، أمام هذا الواقع من حريَّة التصرُّف، أن ينغمس في مزيدٍ من إنطلاقه في نظم القصائد الانتقاديَّة والعمل على تلحين بعضها وغنائه؛ أمام جمهور ما انفكَّ يتزايد ويتعاظم، إلى درجةٍ وجد فيها الزعنِّي نفسه قادراً على التَّفرُّغ لهذا الشَّأن؛ بل لأن يفتتح لنفسه، لاحقاً،مؤسَّسةً لطبع الأسطوانات ونشرها، عرفت باسم «زعنِّي فون»(3).

عيَّنت الحكومة الفرنسيَّة، يوم أيَّار (مايو) 1926، وللمرَّة الأولى منذ بدء الانتداب الفرنسيِّ على لبنان، مندوباً سامياً مَدَنِيَّاً لها، هو هنري دي جوفنيل (Henry de Jouvenel)(4). وتمثَّلت الخطَّة الإداريَّة السِّياسيَّة لهذا المندوب السَّامي في سلوكه نهجاً «مَدَنِيَّاً» غير «عسكريٍّ» في إدارة البلد؛ إذ دعا المجلس النِّيابي إلى وضع دستور للدَّولة، جرى إقراره سنة 1926؛ ثم كان أن جرى انتخاب المحامي «شارل دبَّاس» أوَّل رئيس للجمهوريَّة اللبنانيَّة، في 26 أيَّار(مايو) من تلك السَّنة؛ واستمرَّ الرَّئيس دبَّاس في هذا المنصب، لغاية شهر كانون الثَّاني (يناير) من سنة 1934(5).

تأرجَحَت إدارة الرَّئيس دبَّاس بين الولاء لسلطة الانتداب الفرنسيِّ على لبنان، وبين محاولات إرضاء، ولو متعثِّرة في كثير من الأحيان، للسِّياسة المعارضة للإنتداب. ويبدو أنَّ الشَّكوى الشَّعبيَّة من عهد الرَّئيس الدبَّاس لم تتوجَّه مباشرة إلى شخص الرَّئيس فقط، بل هاجمت ناس إدارته؛ منتقدة الأوضاع التي أدَّت إلى تعيينه في المنصب الرِّئاسي مِن قِبَل المفوَّض السَّامي الفرنسي. وكان عمر الزّعنِّي، ههنا، صوتاً صارخاً بجرأة وقوة ووضوح؛ إذ أطلق أنشودة لاقت انتشاراً كاسحاً، إلى درجة اضطرت معها الحكومة إلى مصادرة نُسَخِ اسطوانة هذه الأنشودة. 

البحر كبير، يا ريِّس

بَحْرِيَّة حمير، يا ريِّس

فرحان كتير، يا ريِّس

لأنَّك ريِّس، يا ريِّس

أمر الله وحَكَم، يا ريِّس

وعطيوك العَلَم، يا ريِّس

وبغطِّة قلم، يا ريِّس

عَمَلوك ريِّس، يا ريِّس

الرِّيح سْمِيِّه، يا ريِّس

فين رايح فِيَّا، يا ريِّس

بقولَّك حُرِيَّة، يا ريِّس

ما خَرْجَك ريِّس، يا ريِّس.

تأثَّر لبنان، كما كثير من دول العالم ومناطقه، بالأزمة الاقتصاديَّة الكبرى، التي عاشتها أميركا، ومن ثَمَّ، أوروبا، في مطلع ثلاثينات القرن العشرين. وظهر، مع الضُّعف الاقتصادي العام، خللٌ في مجالات الإدارة والتِّجارة والاجتماع؛ مِمَّا ساهمَ في قَلْبِ بعضٍ من المعادلات الاجتماعيَّة والسِّياسيَّة، التي اعتاد البلد أن يقوم عليها. وانطلاقاً من هنا، أنشد عمر الزِّعنِّي، في هذه المرحلة، قصيدة مغنَّاة بعنوان «بيروت»، صوَّر فيها، بمرارة واقعيَّة، أحوال النَّاس:

يا ضيعانك يا بيروت

الخواطر مكسورة

والنُّفوس مقهورة

والحريِّة مقبورة

والكلام للنبُّوت

الجهَّال حاكمين

والأرذال عايمين

والأنذال عايشين

والأوادم عمَّ تموت

ما في هيبة ولا وقار

بالأحكام استهتار

وين ما مشيت لعب قمار

في النَّوادي والبيوت

الغريب بيتمخطر

والقريب بيتمرمر

وإللي بيفوت ما بيضهر

وإللي بيضهر ما بيفوت

يا ضيعانك يا بيروت

عرف اللُّبنانيون، في ثلاثينات القرن العشرين، كما في أربعيناته، ازدهاراً لنظام الاحتكار التِّجاري؛ وباتت معظم الأمور، تالياً، مرهونةً لمصالح المؤسَّسات المحتكِرة. ومن تحصيل الحاص، ههنا، أنَّ إدارة النِّظام الاحتكاري هذا، كانت تحت سلطة الانتداب الفرنسي من دون سواه؛ الأمر الذي أصاب الاقتصاد الوطنِيِّ بكثير من الخسائر، وحجب عنه فرصاً عظمى في الاستثمار والانتاج على حدٍّ سواء. 

عانى كثيرٌ من المواطنين، في العقد الثَّالث من القرن العشرين، من ضائقة ماليَّةٍ صعبةٍ؛ كما عانوا من عدم تمكُّنهم من السَّيطرة على مقدراتهم الانتاجيَّة؛ فنظامُ الاحتكار المُتَّبَعِ، عهذاك، كان قادراً على ضرب رؤوس الأموال غير الخاضعة له؛ بل كان قادراً على إجبار رؤوس الأموال هذه على الخضوع لمصالحه ومآربه. وهنا ينبري عمر الزَعنِّي، مندِّداً بسياسة الاحتكار، فاضحاً ما تُبني عليه من نهبٍ لخيرات الوطن واستغلالٍ لمنتجاته وتفقيرٍ لناسه:

كل شي صار احتكار

المَي والنُّور والنَّار

احتكار باحتكار

التُّنباك والدُّخَّان

مزروعات الأوطان

لا محصول الألمان

ولا منتوج اليابان

ما مْنِحْكُم على زرعه

ولا مْنِشْرِف على بيعه

حتَّى بِمالنا مش أحرار

وما منحكم على المَيْ

لا عالشَّمس ولا عالفَيْ

كل شي نافع كل شي حَيْ

طار من إيدينا شوَيْ شوَي



(وإلى اللِّقاء في الحلقة الرَّابعة) 



هوامش:

1 - رائف فاخوري؛ قصصي، من أهل بيروت. انتخب 1943-1949عضواً في مجلس أمناء «جمعية المقاصد الخيرية الإسلامية في بيروت»، وتولَّى مهام أمانة سر هذا المجلس؛ وتوفي مطلع سنة 1954. له عدَّة مسرحيَّات منها مسرحية «جابر عثرات الكرم» ومسرحيَّة «الرِّيال الزَّائف».

2 - يُنظرَ: محمَّد كريِّم، المسرح اللبناني في نصف قرن 1900-1950، دار المقاصد للطباعة والتأليف والنشر، بيروت، 2000. 

3 - فؤاد صالح السيِّد، أعظم الأحداث المعاصرة، مكتبة حسن العصرية، بيروت، 2015، ص. 444.

4 - مقابلة تسنَّى لي إجراؤها شخصيَّاً، خلال آب من سنة 1972، مع: الشاعر المرحوم صلاح الدين لبابيدي، في منزله في منطقة «المنارة» في بيروت.

5 - مقابلة أجريتها شخصيَّاً، خلال شهر آب من سنة 1972، مع: شقيقه المرحوم سعد الدين الزعني، في بيروت في متجره في منطقة «الوسط التجاري، شارع حسين الأحدب تجاه مبنى بلدية بيروت.

6 - تولى مسؤولياته في 23 ديسمبر 1925 واستمر حتى 23 يونيو 1926. وهو صحافي ورجل سياسة فرنسي ولد في 5 نيسان سنة 1876 وتوفي في 5 تشرين الأول سنة 1935.

7 -انتخب الأستاذ شارل دبَّاس من قبل المجلس النيابي ومجلس الشيوخ برئاسة الشيخ محمد الجسر في 26 أيار 1926 وذلك لمدّة ثلاث سنوات على ما كان ينص الدستور حينها. وتمّ انتخابه لولاية أخرى في تموز 1929. شكل حكومته الأولى في 31 أيّار 1926 برئاسة أوغست أديب. وفي 27 آذار1929 قبل انتهاء ولاية الدباس بشهرين، اجتمع المجلس النيابي وجدد انتخابه رئيساً بأكثرية 42 صوتاً؛ تشكَّلت آخر حكومة في عهد الرَّئيس الدباس برئاسة أوغست أديب في 25 آذار 1930 واستمرت حتى 10 مايو 1932.شهد عهد الرَّئيس شارل دباس عدَّة تنظيمات سياسيَّة وإداريَّة منها:

- تعديل الدستور لمرتين؛ الأولى سنة 1927، إذ دُمج مجلس الشيوخ بمجلس النواب؛ والثانية سنة 1929، إذ أصبحت ولاية الرَّئيس ست سنوات غير قابلة للتجديد بدلاً من ثلاث؛ وتجدر الإشارة إلى أنّ الرَّئيس دبّاس رفض أن يستفيد من هذا التعديل.

- تنظيم المحاكم العدليَّة. 

- تأسيس شهادة «البكالوريا اللبنانية». 

- إصدار مرسوم إنشاء المتحف الوطني. 

- وضع النشيد الوطني اللبناني.

8 - أصطلح على تسميتها باللغة الإنكليزية (Great Depression)؛  وهي أزمة اقتصادية بدأت في سنة 1929، واستمرَّت خلال ثلاثينات القرن العشرين وبداية أربعيناته، وتعتبر واحدة من أكبر الأزمات الاقتصادية في القرن العشرين؛ وقد انطلقت الأزمة من الولايات المتَّحدة الأميركية، ويقول المؤرخون إنها بدأت مع انهيار سوق الأسهم الأميركية في 29 أكتوبر 1929 والمسمَّى «الثُّلاثاء الأسود».

9 - جسَّدت السياسة الاقتصادية، التي اتبعتها سلطة الانتداب الفرنسي على لبنان، ما يسمى «اقتصاد الاتفاقيات»؛ وذلك بجعل التبادل التجاري والخدمات المرافقة له حكراً على المصالح الفرنسية. وكانت سلطات الانتداب تكتفي بإنفاق ما تحصله من رسوم جمركية وضرائب غير مباشرة، كانت تمثل 80 في المئة من مداخيلها. ولم تكن معدلات هذه الرسوم توفر أية حماية للصناعات الناشئة، ولم يكن ممكناً رفع هذه المعدلات لأن النخب التجارية كانت تمانع في ذلك.



 رئيس المركز الثقافي الإسلامي