بيروت - لبنان

اخر الأخبار

18 آذار 2020 12:02ص تكريماً للذكرى السنوية التاسعة والخمسين لوفاة شاعر الشعب «عمر الزعني»: «الناقد الاجتماعي..»

عمر الزعني مع عائلته (زوجته السيدة بهية ضيا الحمزاوي وابنته دلال وابنه محمد) عمر الزعني مع عائلته (زوجته السيدة بهية ضيا الحمزاوي وابنته دلال وابنه محمد)
حجم الخط
قضَّت طبيعة العيش أن تبقى، معظم الأُسر في لبنان، إن لم يكن جميعها وعلى اختلاف مناطق سكنها، متلاحمة فيما بينها. وجرى العُرف الاجتماعيُّ أن يتفيَّأ أبناء العائلة العيش، تحت جناح الأب أو الجد وبرعايته، في منزل واحد يتوزَّع على غرف لكل ابن غرفة. ولربما كان لبعض الأسر أن تتوسَّع في هذا المجال، فتبني مساكن لأبنائها بجوار مسكن الأب أو الجد؛ لكن لا يمكن لأي من هذه المساكن أن تبتعد، عمليَّاً، عن رعاية الأب أو الجدِّ على الإطلاق. ولقد كان لهذا النِّظام في السَّكن أن يؤمِّن الرِّعاية العائليَّة والاجتماعيَّة للمُنْضَوينَ تحت لِوائه؛ فضلاً عن تيسير مهام عملهم، إذ غالباً ما كان معظم الأبناء يتابعون الأبَّ والجدَّ في المهنة التي يرتزقون من العمل فيها.

تغيَّرت بعضُ هذه الأمور مع تطوُّر الزَّمن؛ وخاصَّة في مطلع القرن العشرين، إبَّان حُكْمِ الانتداب الفرنسي؛ فبات بعض أبناء العائلة الواحدة لا يتابعون مهنة الأب أو حرفة الجدّ، بقدر ما يسعون إلى مجالات مختلفة في العمل وكسب الرِّزق وتأمين الفاعليَّة المجتمعيَّة للوجود. وهكذا، باتت طبيعة عمل الفرد تترك بصمات لها على وجوده المكاني ومدى التصاقه بالأسرة بل كيفيَّة علاقاته الاجتماعيَّة، وتالياً، المفهوميَّة مع العائلة بشكل عام.

يُشْاهِدُ عمر الزِّعنِّي هذه التغيُّرات الاجتماعيَّة ويعيشها، بكلِّ ما تبشّر به من تغيُّر في السُّلوك والقيم والمفاهيم، عبر قصيدة «ليلة عُرسي» التي أَنْشَدَها، بإيقاع لَحْنِيٍّ فرنسيٍّ راقص؛ ولاقت انتشاراً واسِعاً في لبنان وبعض البلدان العربيَّة، في ثلاثينات القرن العشرين وأربعيناته. يتَّخِذ الزعنّي، ههنا، مناسبة الاحتفال بالعرس، رمزاً لبداية عيش جديد؛ وينطلق، على لسان العروس، محدِّثاً عن الرُّؤية الجديدة للاستقلال عن العائلة:

ليلة عُرسي، خمسين تاكسي

واقفين عالباب

أوَّل باليش(1)، لاحلُق شاليش(2)

واطلع بالكاب

لاحمِل باستون(3) ألا غارسون(4)

وبشيل الحجاب

أهله بِحارَه، ونِحنا بْحاره

متل الأغراب

ما لهم كلام، غير السَّلام

سلام الأحباب

كُلُّه بأمري، كُلُّه بشوري

مِن غير حساب

إن عجبهم، إن خَلَّصهم

 يكتبوا الكتاب(5)

ازدهرت صناعة «النَّايلون» (Nylon)(6) في العالَم، معً بداية ثلاثينات القرن العشرين؛ وغَزَت مُنتجات هذه الصِّناعة بلدان العالم، بشكل واضح وفعَّال، بُعَيْدَ الحرب العالميَّة الثَّانية. ولئن وفَّرت هذه الصّناعة بديلاً أقلَّ كلفة ماليَّة لكثير من المنتجات بالمواد التَّقليديَّة الطَّبيعيَّة، غير أنَّها لم تتمكَّن من توفير ما كانت تؤمِّنه المواد التَّقليديَّة الطَّبيعية من جودة وديمومة.

تَرافَقَ ظهورُ مُنتجات «النَّايلون» في لبنان، مع ظهور فاعليَّة سياسيَّة دوليَّة بقيادة الولايات المتَّحدة الأميركيَّة في البلد؛ وهي فاعليَّة لم تكن بهذا الظُّهور وتلك القوَّة في المراحل التي سبقت. ومن هنا، يستغل عمر الزِّعنّي، في أربعينات القرن الماضي، هذا الأمر؛ إذ يربط بين «النَّايلون»، الذي هو منتج صناعيٌّ من تلك المرحلة، وبين التَّوجُّهات السّياسيَّة للغرب في بلادنا، بقيادة الولايات الأميركيَّة؛ وما تجرُّه هذه التَّوجُّهات على مستويات الوجود السّياسي والاجتماعي والثَّقافي والصّناعي في البلد. ويرى الزعني إنَّ هذه المستويات لا تخالف مبدأ «النَّايلون» الرَّخيص الثَّمن، وصاحب المظهر الخلاَّب؛ لكنها، مثله، لا تَتَمتَّع بالجودة والدَّيمومة.

وَيْلُن  للنَّاس وَيْلُن، من شر بلاد النَّايلون

صار وين ما مشيت، أو رُحت وجيت

مشمَّع، كبابيت، كرتون وشيت،  ودم العفريت

نايلون

كل مأكولك، كُل مشروبك، كُل ملبوسك، 

من طربوشك، لبابوجك،

نايلون

المجلاَّت، بالات بالات، 

والسَّخافات والدِّعايات، حتَّى الويلات

نايلون

ما خلاَّ باب، دفتر وكتاب، 

شُعرا وكُتَّاب،

عاملين حساب يِبْعَت نُوَّاب

نايلون

يتابع الزّعني إيقاعات الحياة السِّياسيَّة والاجتماعيَّة في لبنان، في خمسينات القرن العشرين؛ ويجد أن الأمور تشهد تغيُّراتٍ عديدة، وتنوُّعات كثيرة. ويلاحظ الزعني، ههنا، أنَّ الأنثى ما عادت، في خمسينات القرن العشرين، على الإطلاق، سجينة المنزل الأسري؛ بل صارت تنطلق، بحريَّة وثقة عالية بالنَّفس، في كثير من مجالات الشَّأن العام ومحطَّات العمل فيه. 

ويجد الزعني، كذلك، أن الأنثى في انطلاقتها هذه، أخذت تميل إلى تغيير صار يطال بعض قيافتها المعهودة من قبل في اللباس وبعض مظاهر سلوكها؛ فقد باتت ترتدي السَّراويل الخارجية، مثلها في هذا مثل الذُّكور؛ كما باتت، مثلهم، تقود السَّيارة وتنطلق مع أصحاب لها بكل حريَّة. إنَّه التغييُّر الاجتماعي الذي يطال مظاهر العيش وقيم الحياة ومفاهيم العصر؛ وهو ما صوِّره الزِّعنِّي، في قصيدته المغنّاة «يم الجاكيت والبنطلون»:

يَمْ الجاكيت والبنطلون

شفتك واقفه على البلكون

خمَّنتك شب، يا مدموزيل

لا تواخذيني، باردون، باردون

شفتك لابسه بيريه وكاسكيت

ودايره بالسُّوق بتياب البيت

من غيره بودره، من غير تواليت

وقاصَّه شعرك «ألاغرسون»

خمَّنتك شب، يا مدموزيل

لا تواخذيني، باردون، باردون

وشفتك طالع بالليل وحدك

ما في رجال ماشي حدِّك

رايحه جايه وين ما بدِّك

طالعه من هون، نازله من هون

خمَّنتك شب، يا مدموزيل

لا تواخذيني، باردون، باردون

شفتك مرَّه بعربيَّة «بويك»

طالعه بالليل من فيلاَّ شيك

وعلى جنبك ست، شيك وسبمباتيك

وعم تتمايلي عالدِّركسيون

خمَّنتك شب، يا مدموزيل،

لا تواخذيني، باردون، باردون



 هوامش

(1) أول الأمر

(2) ترتيب لشعر الرأس يكون فيه الشعر قصيراً.

(3) عصا

(4) مثل الرجال

(5) عقد القران

(6) ظهر «النَّايلون» سنة 1938، وشكّل هذا التَّاريخ نقطة البداية لهذا النوع من الصناعات (أي البلاستيكيَّة بشكل عام)؛ أمَّا مخترع «النَّايلون» فهو والاس كاروثرز ومساعدوه في شركة دو بونت. كان أول تطبيق عملي للنَّايلون، على مبدأ التسليع التِّجاري، في سنة 1938 عندما تم استخدامه في صناعة شعيرات فراشي الأسنان؛ إلا أنه وَجَدَ تطبيقاً كبيراً له في شهر تشرين الأوَّل (أكتوبر) من سنة 1939؛ عندما استخدم في صناعة الجوارب النِّسائيَّة، وذلك لمشابهته ملمس الحرير ولرخص ثمنه.

  رئيس المركز الثقافي الإسلامي