بيروت - لبنان

21 شباط 2020 12:01ص د. أنطوان معلوف في كتابه «حتى لا تيبس الأشجار»: عودة الربيع إلى الغصون اليابسة

غلاف الكتاب غلاف الكتاب
حجم الخط
على امتدادِ الشّاطئ الفكريّ للدكتور الأستاذ أنطوان معلوف، يُسدي لنا الفكر الإنساني من أقانيمِهِ مزاميرَ إلتقاء في أغراض التربية والاجتماع والأدب والرسم والغناء والمسرح، وشذراتٍ ذاتية من رجاء الشّباب وآمال التّطلُّعاتِ، في مرحلةٍ مُبْكِرة من حياةِ هذا الرجل الطليعي، الحَسَنِ الطَّويّة. وهُوَ إذ أرغَدَتْ كلماتُهُ بينَ التفاتٍ انطباعيٍّ خاص أو تمحُّصٍ نقديّ أكاديميٍّ مُنتَظِم في تفاصيلِ موضوعاته، فقدِ استَهَمَتْ معانيها على مُشافهةِ الروحِ بِكُلِّ ارتعاشاتها المُتقلّبة، وتَهَدّجَتْ سياقاتُها بنداءاتِ النَّفْسِ المُتحرِّرة التي قضِيَّتُها الإنسان، لتُشكِّلَ فصولاً أربعةً مِنْ مرحلةِ المقالات اللُّبنانيات مطلعَ السبعينيات من القرنِ الفائت في مجلة «الأسبوع العربي» وقتذاك تدرجت بالتتالي: الأول في التربية والاجتماع، الثاني في الأدب ومراجعة الكتب، الثالث في الرسم والرقص والغناء، والرابع في المسرح.

كتاب «حتى لا تيبس الأشجار» الصادر حديثاً (2019) عن دار أوراق الزمن في بيروت هو قطعة من حياة المعلوف، المسرحيّ الفذّ، الذي لا أَمَدَ مُحَدَّداً بين قراءةٍ أولى أو ثانية وربَّما ثالثة للمقالة الواحدة في كتابه هذا كلما تعلّقنا بأنواطه، إنَّما ميعادٌ منفتحٌ بالعطاء على امتدادِ مجازِ التواصُلِ الفكري والروحي بينَ خطراتِ المعلوف التي شكَّلتْ وُحُيَّ قراءاته فيما سَفَرَ منْ أسرارِ قلمهِ الطيّب الذِّهن «كمسرحيٍّ طليعيٍّ رائدٍ وكاتب مقالة من طرازٍ فريد» كما قدَّمَهُ الدكتور جوزف لبُّس في مُدخَلِ الكتاب العتيد.

وفي إطلالة مُشرفة على الفصول الثلاثة الأولى لا تكاد تركدُ النّفْسُ بعدَ صفاءِ التأَمُّلِ في لوحة «النّافِذة» التي غلّفَتْ واجهة الكتاب بريشة جاكلين الأشقر لبُّس، حتّى تتَوَثَّبَ مُجَدّداً بما تجدولَتْ بهِ مقالاته من بوحٍ غنيّ بأفكارِ انطباعاته الثقافية كشاهدٍ حاضرٍ وجادّ في تلك المرحلة الزمنيّة الذهبيّةِ الفِكْر في لبنان في عناوينَ شكّلتْ بحدِّ ذاتها تشخيصاً فكرياً يطرحُ كلٌّ منها إشكاليةً قائمة بذاتها حتى قبل أن تُقرأَ المقالة! فَمِنْ عنوان «الرَّقْص الرّهيب الرائع على حدِّ السّيف»، إلى «كيف نربحُ العالم ولا نخسرُ أنفسنا»، ليدلِفَ إلى الرؤية القديمة المتجددة لفكرة الوطن المِثال في مقالته «حتى لا تيبس الأشجار» التي عنونَ بها كتابَهُ وكأنها كُتبتْ اليوم لا منذُ خمسينَ عاماً: «أترانا نخلو من العنصرِ البشريّ القادر على الوقوف في وجه تحدّيات العصر؟ أترانا نخلو من المواهب الشابة القادرة على خوضِ ميادين العلم والتقنية؟ إن هؤلاء أملنا الوحيد وهم كثيرون فينا».

إلى الفصل الرابع والأهمّ، حيثُ يطرق معلوف بابَ المسرحِ المحليّ والعالمي الذي هو مضماره كفرسٍ مُجيد فريد في كلماتهِ النَّاضجة حوله كقضية تنشدُ الأوجَ في إعادةِ تشكيلِ الوعْي الاجتماعي بأهميّة هذا الفن الذي «يُفتّقُ الجرحَ قبل أنْ يصيرَ جُرحاً، ويبدأُ المعركة مع نفسه قبل غيرها» باتّفاقِ حُرّاسِهِ المُخْلَصِين من شكيب خوري الى ادوار البستاني فعصام محفوظ وانطوان ولطيفة ملتقى وليسَ انتهاءً بمحمّد كريّم وريمون جبارة وأنطوان كرباج، تأليفاً وعرضاً.

هي المقالات، الروحُ النابضُ دوماً بوشوشاتِ مفرداته، يليقُ بها القلقُ الفكريّ الفتيّ للشّابِ الطّالعِ من سلالة المعالفة، المُتفكّرِ في ماهية الوجود الإنساني ومعطياته المختلفة، ومُهدهداً مآلَ آمالهِ إلى خيرِ ما يحبو إليه الظنُّ الحسنُ خلاصةً وافيةً لمُجملِ مَحَاورِهِ بينَ دفّتَي هذا الكتاب، فلم تنْبِسْ أحاسيسُهُ بلَفْظِ هوًى ضِلِّيل! بلْ نَضَّدتْ كلماتِهِ العذبةِ بباقاتِ الرؤى الجادّة الجامحة إلى انعتاقٍ بِنيويّ من بعضِ الموروثِ الثقافيّ المُسجّى فكرياً دونَ أشكالِهِ الراتبة، إلى مُرتقى الانفتاح الهادف الى إنقاذ الذات ورِبْحِها في مواجهة تحديات الوجود والمصير.

إنّهُ العَلّامةُ أبو التجربة المسرحية اللبنانية الرائدة وعياً وإبداعاً كتابياً أصيلاً (منذُ مسرحيته الشهيرة «الإزميل»)، القابضُ على مُمكناتِ السَّلِيقةِ الأدبية انهماراً فطرياً خلال صفحات كتابه الذي ابتعَثَ رمزية الربيع من هدى بو فرحات الزوجة المعطاءة إلى الغصون اليابسة في صفحةِ الإهداءِ الأولى، مُقرّراً أنْ لا فتًى يَصدِفُ طوعاً عن استكتابِ عملهِ رؤيوياً مِنْ جديد ولو بعد دَهْر، فلا يئِدُ مشاعره المُزجاة على السليقةِ كمشكاةٍ مُنيرةٍ خبِيئة، تُخاتِلُ طموحاتِه التي لا تهدأ إلى ما هو أهم وأجدى من آرائه للناشئة والمجتمع اليوم من حولنا، انبثاقاً منَ التَّناصِ الروحيّ في كلماتهِ مع حصادِ تنشِئته المعرفيّة التي اسْتَنبَتَتْ هذا المُصنَّفَ الغنيّ في أوردةِ فُصُولهِ الخصْبَة الوارفةِ الحضور على أروقةِ اللُّغة ودلالاتها الماتعة.

حسام محيي الدين 
hmouhieddine@gmail.com