يواصل مسرح «مترو المدينة» تسجيل أهداف إيجابية في مرمى المسارح الكبيرة، مع إستكماله مسيرة الأصالة والتراث والزمن الجميل لفنوننا المسموعة والمرئية، جاذباً جمهوراً وفيّاً لكل ما له علاقة بولادة النغم المميّز، والكلمات التي كانت صورة عصرها ومجتمعه، ومن يتابع البرمجة ويرصد نوعية الحضور يدرك أن الأعمال الجيدة تستقطب رواداً من نوع آخر لطالما لازموا منازلهم لأن أحداً لم يقدّم لهم ما يُفيد ويُمتع ويملأ الدماغ بنماذج من الإبداعات الفطرية في زمن غابر لكنه صادق.
هذه المرة جاء دور الطقاطيق وما كانت تردّده حفنة من الفنانات في زمن العوالم أو الراقصات في الشارع الأشهر في القاهرة، شارع عماد الدين، الذي عرف مع بداية القرن الماضي حياة فنية صاخبة ودسمة، فرضت حفنة من العوالم قانونهن على أهل الفن وهل أحد لا يعرف «بديعة مصابني» (من أصل لبناني) التي استقبلت في مربعها كبار الفنانين وبينهم الكبيران محمد عبد الوهاب وفريد الأطرش، وأفردت لهما مساحة كافية من الوقت لتقديم ما عندهما من مواهب، قبل أن يخرجا إلى الجمهور العريض ويكون لهما شأن على مستوى مصر ثم في دنيا العرب.
وحضر صوت المغنية الرائعة «سلوى جرادات». خطير صوتها كم فيه من عبق الأمس، هي لا تقلّد، ولا تتصنّع في أدائها بل نهر فني يتدفق بغزارة وعفوية وإجادة من دون أن تكون حذرة من نسيان بعض الكلمات أو غياب بعض الجمل الموسيقية عن ذاكرتها، حتى أنها لم تعتمد بشكل واضح على نصوص الأغاني أمامها فقط لزوم دعمها إذا ما خانتها الذاكرة، وأشعرتنا أنها فعلاً على مرتبة أو «تكية» من تلك التي تُعتمد أصلاً في القرى والنجوع المصرية تيمّناً بما كان عند الأجداد، وخدمها الصوت بشكل مطلق في تظهير صورة واقعية حقيقية لما كانت عليه الأحوال في تلك الحقبة من الزمن، ومن يزر شارع عماد الدين في القاهرة اليوم لن تخفى عليه التفاصيل فمعظم المرابع التي كانت موجودة، ما زالت في مكانها، فقط مطلوب إستحضار الناس من أبطالها عبر الذاكرة أو السمع.
نصف دزينة فنانين على الخشبة، جلست «سلوى» بين فرح قدور (طار وبطانة) ولمى قاسم (إيقاع) على المرتبة، ومن حولها عند طرفي المسرح: سام دبول (قانون)، خضر رجب (كمان)، فراس عنداري (عود)، وتوالت الأغنيات وناس الصالة يتجاوبون مع الإيقاع والكلمات والمناخ الأليف للألحان (إيه رأيك في لطافتي، تضربني ليه يا سعادة البيه، وحوي وحوي، ما إقدرش عالعشرة ديه، الخلاعة والدلاعة، يا نخلتين في العلالي، يا راجل، ساعة ما دخلت عليا، وعيونك سود يا محلاهم، الحنة الحنة، بعد العشا يحلا الهزار والفرفشة، الحب دح دح والهجر طز طز، يا موج البحر، وعلى بلدي، ليه الدلع حبيبي) واللافت في الكلمات أن هناك قضايا إجتماعية كانت تطرح في الأغاني ومنها ضرب الرجال لزوجاتهم، رفض الزوجة الخضوع لقسوة الزوج والعيش معه غصباً عنها، ولم تكن المرأة تتردد في التغزّل بالرجل والتعبير عن شعورها نحوه، وميل الجنسين إلى لحظات لهو من وقت لآخر، مع الإيمان بأن الحب أمر مهم وأن الهجر سيئ بكل المقاييس.
«مترو المدينة» أوجد هذا الفضاء التفاعلي وميّزه من جميع النواحي، سواء في إختيار العازفين الذين أثبتوا في عزفهم المنفرد أن كلاً منهم طاقة مستقلة، وأن إجتماعهم معاً حقق الغاية خصوصاً مع صوت سلوى العلامة الفارقة والممتعة على مدى السهرة التي إمتدّت لأقل من ساعتين بقليل.
المصدر: جريدة « اللواء»