بيروت - لبنان

اخر الأخبار

25 أيلول 2019 12:00ص «شامِل ومِرعي» (الحلقة الأولى)

محمد شامل (يمين) وعبد الرحمن مرعي خلال تسجيل حلقة من برنامج (انسى همومك)  في استوديوهات إذاعة الشرق الأدنى في خمسينات القرن العشرين محمد شامل (يمين) وعبد الرحمن مرعي خلال تسجيل حلقة من برنامج (انسى همومك) في استوديوهات إذاعة الشرق الأدنى في خمسينات القرن العشرين
حجم الخط
«شامل ومرعي»، أحد الموضوعات التي يختزنها ما يمكن تسميته، اليوم، «شبه المسكوت» عنه من تاريخ لبنان الثَّقافي؛ وضمن هذه الموضوعات أمور وقضايا غنيَّة عديدة، بإمكانها، لو أُحسن النَّظر فيها، أن تساهم في جلاء حقائق عديدة ووقائغ مؤثِّرة وجميلة تركت بصمات أساس لها في تشكيل واقع العيش الثَّقافي في البلد.

شهِد لبنان، انطلاقاً من ثلاثينات القرن العشرين وحتَّى نهاية خمسينات ذلك القرن، ظهور ما صار يُعرف بين النَّاس بـ «شامل ومرعي»؛ وهو ثنائيٌّ فنِّيٌّ، تكوَّن من شابَّين من أبناء بيروت، أحدهما اسمه «محمَّد شامل الغول»، والآخر، «عبد الرَّحمن مرعي»؛ وكان أن ملأ هذا الثُّنائيُّ السَّاحة الفنيَّة، زمنذاك، مسرحاً وإذاعةً، وحتَى سينما، بحضورٍ قويٍّ وإقبالٍ جماهيريٍّ نخبويٍّ وشعبيٍّ حاشد.

آن للُّبنانيين اليوم، وخاصَّة في هذ المرحلة من عيشهم، التي يأملون فيها تُحقُّق سعيهم إلى بناء لبنان الوطن الحقيقي، أن يجهدوا في العمل على قراءةٍ موضوعيّة ومنصفة لتاريخهم؛ لا حُبّاً بالتّاريخ وحسب، بل حبّاً بالوطن وبناس الوطن وبالآتي من زمن هذا الوطن وأهله. وها أنّ موضوع «شامل ومرعي»، يقف شاهداً فذَّاً على حضور خمسين سنة، غنيَّة بالنَّشاط، من سنواتِ العيشِ التَّأسيسيِّ والفاعل لجوانب كبرى من الثَّقافة المعاصرة في لبنان. لا بدّ من التأكيد، ههنا، على أنّ هذه المادة، التي تقدّمها شهادة «شامل ومرعي»، لا تقف عند حدود ما يمكن أن يعرف بالحدث التّاريخي، الذي صنعه «شامل ومرعي»، وجوانب حقيقته؛ بل إنّها تتعدّى هذا الأمر، لتدُلّ على كثيرٍ من مجالات الإبداع الفنّي، وتصبّ في مجال تشكّلٍ للقِيم الثقافيَّة وتكوّن للمفاهيم الفنيَّة عند اللبنانيين عامَّة، وناس بيروت خاصَّة، في النِّصف الأوَّل من القرن العشرين. إنَّها شهادة زهاء نصف قرن مترعةٍ بالحيويَّة والعطاء، من سنوات صناعةٍ للثقافةِ والفنّ، ونبضٍ الحياة المعاصرة في وجود ناس هذا البلد. فهل للبنانيَّين، جميعِ اللبنانيين، أن يتناسوا هذه الشهادة، أو يهملوها؛ أو هل لهم إلاَّ أن يُصرّوا على وضعها في المكانة التي يحقّ لها أن تكون فيها، وأن يعمدوا إلى حُسنِ الإفادة من معطياتها؟

ولد محمَّد شامل الغول، سنة 1909، في حي شعبي ضمن ما كان يعرف بـمحلَّة «بوَّابة يعقوب» من مدينة بيروت؛ وكانت هذه المحلَّة تقع، آنئذٍ، غربيِّ ما يعرف اليوم بـ «ساحة رياض الصُّلح»، وتحديداً عند بداية الشَّارع الممتد من هذه السَّاحة صعوداً باتِّجاه الموقع الرَّاهن لـ «مسجد زقاق البلاط». و«محمَّد شامل»، اسم مركَّب، على عادة كثيرين من ناس بيروت المسلمين في إضافة اسم رسول الله محمَّد إلى أسماء أبنائهم.

على غير ما خَبِرَهُ محمَّد شامل، في حياته، من قساوة الطُّفولة وشظف العيش، فإن عبد الرَّحمن مرعي، سبق شامل إلى الحياة، إذ كانت ولادته سنة 1905، وكان هذه الولادة فيما كان يعرف بإسم منطقة «النَّاصرة» من مدينة بيروت؛ وهي منطقة كانت، حينذاك، مطرحاً لسكنى كثيرين من ذوي اليسار الماديِّ والرُّقي الاجتماعي؛ وكان موقع منزل أسرة عبد الرَّحمن مرعي، وقتذاك، حيث يقع اليوم الحي المعروف حاليَّاً بإسم «السُّوديكو». 

تزوَّج والد محمَّد شامل، إثر وفاة زوجه الأولى، وانصرف مع زوجه الجديدة عن الاهتمام بطفله الرَّضيع «محمَّد شامل»؛ فما كان من جَدَّي الطِّفل لأمه، إلاَّ أن ضمَّا رضيعَ ابنتهما المتوفاة، إلى عهدتهما؛ لكن ما كاد الطِّفل يبلغ التاسعة من سني العمر، حتَّى توفي جدَّاه هذان؛ فرجع إلى العيش، مع والده، مُهْمَلاً من قِبَلِ زوج والده، ومحاطاً بظلمها له؛ إذ حرَّمت عليه ارتياد المدرسة تلميذاً، غير أنَّها أباحت له التَّوجُّه إلى باب المدرسة فقط، مرافقاً لأبنها «شفيق الغول»، التلميذ في تلك المدرسة، والذي أصبح يعرف فيما بعد بالفنان «شفيق حسن»، وحارساً له.

نشأ عبد الرَّحمن مرعي، في رغدٍ من العيش ووفرةِ من الجاه الاجتماعي، في كنف والده عبد الحفيظ، تاجر البصل الثري والمشهور في مدينة بيروت. كان «آل مرعي» ينتمون إلى رشيد بك مرعي، أحد كبار قادة الأسطول العثماني؛ كما كانت جدة عبد الرَّحمن، لوالدته، من آل بليق البيارتة؛ وعرفت العائلة، تالياً، بإسم «مرعي بليق». وكان عبد الرَّحمن، الأصغر بين شقيقيه، وقد ألحقه والده في واحدة من أهم دور العلم، زمنذاك، «الكليَّة الإسلاميَّة»، لمؤسِّسها الشيخ أحمد عبَّاس الأزهري؛ ثم انتقل عبد الرَّحمن لمتابعة دراستهِ في مدارس «الليسيه الفرنسية» في بيروت؛ والتحق، مِن ثَمَّ، بـ «معهد بياجيه (الفرنسي) لعلوم المحاسبة» وتخرّج فيه.

رغم الحرمان الذي قاساه «محمَّد شامل»، بمنعه من الالتحاق بالمدرسة منذ الطفولة، فإنَّه عاش رغبة جامحة في نفسه لتحصيل ما يمكنه تحصيله من علوم ومعارف وثقافات. اختطَّ لنفسه، ووفاقاً لما كان يواجهه من ظروف وإمكانيَّات، دراسة لا هي منهجيَّة ولا هي منظمة؛ واقع الحال، لقد كانت دراسة تعتمد على ما يتوفر له من قراءات وما يمكنه التقاطه من معارف وأحاديث، وما يمكن أن يستوعبه عقله من أمور. ويبدو أنَّ محصَّلة هذا الجهد، ساهمت في تشجيع «محمَّد شامل» على التقدّم من «المعهد الشرقي في بيروت»، الذي كانت تشرف عليه «جامعة ليون» الفرنسية، للالتحاق بصفوفه. وكان أن خضع محمَّد شامل إلى امتحان دخول، تعويضاً عن عدم حيازته «شهادة البكالوريا» المطلوبة للالتحاق بالدراسة؛ فنجح في الامتحان، وإلتحق بالمعهد الذي تخرّج فيه سنة 1943 مجازاً في اللغة العربية وآدابها.

لطالما سمع، محمَّد شامل في طفولته، جدَّه لوالدته وهو ينشد «الموَّال البغداي»، الذي عُرِفَ بأدائه كثير من ناس بيروت، وردَّدوه في سهراتهم ومجالات تزجية بعض أوقاتهم؛ تعبيراً عن بعض مشاعرهم وأفكارهم؛ وكم كان يتباهى بعضهم بنظم أبياته وحسن تركيبها، كما يعتزُّ بعض آخر منهم بجميل أدائه للموَّال وعذوبة صوته في هذا الأداء. ولقد تسنَّى، لمحمَّد شامل، أيضاً، أن يصغي كثيراً إلى جدِّه لوالده، الذي اشتهر بروايته للقصص الشَّعبي، ومن ضمنه «قصَّة عنترة»، في بعض المقاهي الشَّعبية في بيروت. ويبدو أن ما علق في وجدان محمَّد شامل وذاكرته، من جدَّيه، أكان من باب الموَّال البغداي أو كان من باب القصص الشعبي، وخاصَّة «قصَّة عنترة»، جعل منه في مرحلة الشَّباب، محبَّاً للمسرح وما يعرض عليه من تمثيليات، وما يقدّم خلال هذه التَّمثيليات أو استراحة فصولها من أغانٍ وأناشيد. لقد بات محمَّد شامل، في صباه ومطلع شبابه، مسحوراً بهذا الفن ومأخوذاً بمتابعته وحضوره؛ خاصة وأن بعض الفرق المسرحية المصريَّة اعتادت أن تؤمَّ بيروت؛ وتقدّم بعضاً من أعمالها على مسارح في المدينة. ومن جهة أخرى، فإنَّ محمَّد شامل إلتحق، مثل كثيرين من رفاقه، من شباب بيروت في ذلك الزَّمن، كشَّافاً في «جمعيَّة الكَشَّاف المسلم».

شبَّ عبد الرَّحمن مرعي رياضيَّاً يهتم بتنمية عضلاته؛ وكان خفيف الظِّل، محبَّاً للحياة ولما فيها من طعام وشراب؛ كما كان كريماً مضيافاً إلى أبعد حد يتمكَّن منه. شارك، عبد الرَّحمن، خلال دراسته في مدرسة «الليسيه الفرنسية»، في بعض النشاطات المسرحية، التي كان يقدّمها تلامذة المدرسة إبَّان حفلات نهاية السنة الدراسيَّة؛ ومن جهة أخرى، فإنه التحق بـ «الكَشَّاف المسلم»؛ وشارك في المسرحيات التي كان أعضاء الكَشَّاف يقيمونها في المخيم؛ وصار في شبابه هاويَّاً لفن التَّمثيل، لا يبغي عن هوايته هذه فكاكاً بل يعيشها، وهو ابن الأبن المدلل للأسرة الأرستقراطيَّة الموسرة، رغبة وولهاً بعيداً عن أي مطلب مادي.

كانت بيروت، في الثلث الأوَّل من القرن العشرين، تضجُّ بنشاط ثقافيِّ اجتماعيٍّ متنوِّع التَّوجهات وغنيِّ النَّتائج. التقى، في هذه الأجواء، محمَّد شامل وعبد الرَّحمن مرعي، عبر النَّشاطات الكشفيَّة في «جمعيَّة الكَشَّاف المسلم»؛ ولم يكن فارق السِّن بينهما كثيراً، إذ إن عبد الرَّحمن كان يكبر محمَّد شامل بأربع سنوات. ويبدو أنَّ ثمَّة صداقة ومودَّة، بل أخوَّة حقيقيَّة، جمعت بين ابن الأسرة الارستقراطيَّة، عبد الرَّحمن، الذي ولد وفي فمه ملعقة من ذهب؛ وبين ابن الأسرة الشَّعبيَّة، محمَّد شامل، الذي عانى منذ أن ولد فقراً وحرماناً وقهراً؛ بيد أنَّ زمالة الكشفيَّة والهوس بالمسرح، شكَّلا اللُّحمة التي شدَّت واحدهما إلى الآخر؛ وظلَّ هذا الرباط قائماً بينهما منذ أيَّام الصبا إلى أن فرق الموت بينهما، بوفاة عبد الرَّحمن سنة 1958.

أنضمَّ محمَّد شامل، في مطلع شبابه، حوالى سنة 1928، إلى مجموعة من شباب بيروت؛ برئاسة الشَّاعر والصحافي أحمد دمشقية، وبرعاية، مدير الشُّرطة في بيروت، الشَّاعر عبد الرَّحيم قليلات مع نخبة من مثقَّفي بيروت، منهم، الدكتور مصطفى خالدي والأستاذ عزت الأدلبي. أسَّس هؤلاء الشَّباب ما أطلقوا عليه اسم «منتدى التَّمثيل والرِّياضة»؛ وكان هذا المنتدى ينشط بِعضويَّة كوكبة من شباب بيروت، منها نور العويني ومحمَّد شامل ويوسف سوبرة وطه بعلبكي ومحمَّد جمعة. وكان، أن انبثقت عن هذا «المنتدى» وبهمَّة أعضائه، فرقة هواة للتَّمثيل المسرحي، عمدت إلى تقديم عروض لها في منطقة «زقاق البلاط»، من مدينة بيروت؛ ومن هذه العروض، مسرحيّة «ثعلبة» التي دعي إلى حضورها الشابٌ البيروتي الأرستقراطي وخرّيج «مدرسة اللاييك» ومن طلاب «معهد بيجييه الفرنسي للتّجارة»، عبد الرَّحمن مرعي؛ ويبدو أن عبد الرَّحمن مرعي، وجد في هذه المجموعة ضالته التي يبحث عنها في مجالات التَّمثيل، فانضم إليها معزِّزاً هذا الانضمام بصداقته مع محمَّد شامل.

تأسست، بعد حوالي السَّنتين، أي سنة 1930، جمعيَّة أخرى، عرفت باسم «جمعية الترقي الأدبي»؛ كان رئيسها أحمد دمشقية، وكان من أعضائها مجموعة من شباب بيروت أيضاً، من بينهم محمَّد شامل وعبد الرَّحمن مرعي وشفيق القاطرجي وناجي بدر ومحمَّد اللاز وخضر عيتاني وشفيق النقّاش. وتشكَّلت، من هذه الجمعيَّة، كذلك، فرقة مسرحيَّة تكوَّنت من شباب الجمعيَّة ورئيسها، وقدَّمت مسرحيّة باسم «بيروت على المسرح»؛ كتبها أحمد دمشقيّة، وهو الذي عرّب للفرقة، فيما بعد، مسرحيّة «القناع»، فضلاً عن أنّ الفرقة مثّلت، لاحقاً، مسرحيّة «الهاوية» لمحمود تيمور، ومن بعدها مسرحيّة «القبلة القاتلة»، وهي من معرّبات المصري فتّوح نشاطي لفرقة يوسف وهبي، ومن ثمَّ مسرحيّة «في جبال لبنان» التي اقتبسها عن الإسبانية ولبننها محمَّد شامل.

كان، ابن بيروت وأحد أبرز مثقَّفيها، الأديب عمر فاخوري، من المشرفين على أعمال هذه الفرقة، وخاصّةً في موضوعات مراقبة السَّلامة اللغزيَّة للنًّصوص الموضوعة باللغة العربيّة الفصحى، التي التزمتها الفرقة. ويبدو أنّ محمَّد شامل أقنع، في هذه المرحلة، عبد الرَّحمن مرعي بالانخراط في التَّمثيل الكوميدي، بعد تجربة التَّمثيل الدرامي؛ فبدأ بروز الثُّنائيّ «شامل ومرعي»، واشتهار شخصيّة «عبد العفو الإنكشاري» التي كان يكتب أدوارها محمَّد شامل ويؤدّيها عبد الرَّحمن مرعي.

وإلى اللقاء في الحلقة التَّالية.

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي

أخبار ذات صلة