بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 نيسان 2020 12:00ص شفيق جدايل: العروبي (الحلقة الرابعة)

شفيق جدايل وزوجته السيدة كوثر شفيق جدايل وزوجته السيدة كوثر
حجم الخط
كما عشق شفيق جدايل اللُّغة العربيَّة، إنشاءً وأداءً؛ فإنَّه التزم القوميَّة العربيَّة، هُويَّةً وحضارةً ورؤيةً، في كلِّ محطَّات حياته. ولم يكن إيمانه بالعروبة إلاَّ دافعاً له ليكون مواطناً لبنانيَّاً نموذجيَّاً، يؤمن بلبنان، الذي وُلِدَ رسميَّاً في عام ولادته سنة 1920، وينخرط في كلِّ شؤونه وشجونه مخلصاً ووفيَّاً لوجوده. لقد كانت عروبة شفيق جدايل أخت لبنانيته إن لم تكن ابنتها، وهكذا كان حال أبناء بيئته وجيله الذين ما وُلِدوا إلاَّ في لبنان، فآمنوا بِهِ وأحبُّوه وأخلصوا له وطناً ومستقرَّاً ومستقبلاً، وما وجدوا إلاَّ في العروبة هويَّة قوميَّة وحضاريَّةً لعيشهم وثقافتهم. وفي سنة 1958 هجمت على لبنان زوابع تَفْرِقَةٍ تَجَلَّت في صِراعاتٍ سياسيَّةٍ، خارجيَّةٍ وداخليَّةٍ، كادت تشقُّ وحدة اللبنانيين فيما بينهم وتُهدِّدُ وجودَ دولة لبنان. وكان على شفيق جدايل، وهو الإعلاميُّ البارز والوجه الأشدّ سطوعاً في الإذاعة بين زملائه، أن يختار لفكره العروبيِّ منصَّةً إعلاميَّةً تتيح لهذا الفكرِ ما يبغيه لذاته من انطلاقِ وحريَّةِ تعبير. ومن دون أيِّ تردُّدٍ، غادر شفيق جدايل عمله الإذاعي الرَّسميِّ، الذي شكَّل له، مع التَّدريس، مصدر كسب قوته وقوت عياله اليوميِّ، إلى إذاعة «صوت العروبة» التي كانت تبثُّ برامجها العروبيَّة بإسم «المقاومة الشَّعبيَّة» وبرعاية «حزب النجَّادة» ومن مقرِّه.

دخل شفيق جدايل رحاب إذاعة «صوت العروبة»؛ وبالزَّخم الصَّادق عينه الذي اعتاده النَّاس منه يوم كان يقول «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»، ملأ صوته الآفاق وهو يقول هذه المرَّة «صوت العروبة، صوت المقاومة الشَّعبيَّة في لبنان»، دفاعاً عن عروبة لبنان وحَقِّ ناسهِ في عيش هذه العروبة. كان شفيق جدايل أحد أبرز العاملين في إذاعة «صوت العروبة»؛ يُديرُ البرامج، يُعِدُّ نشرات الأخبار، يُقَدِّمُ التَّعليقات على الأحداث، ويَنْظُمُ الأناشيد للثَّورة الشَّعبيَّة. ويومها انتشر لشفيق جدايل وذاعَ بين النَّاس نشيدُ «أخي في العروبة هيَّا بِنا»؛ حتَّى بات هذا النَّشيد وكأنَّه النَّشيد الرَّسميَّ لـ «المقاومة الشَّعبيَّة». ويوم انجَلَت سُحُبُ ذلك الشِّقاق بين اللُّبنانيين، وكان لا بدَّ من توقُّف إذاعة «صوتِ العروبة» عن البثِّ؛ كانَ على شفيق جدايل أن يَنْتظر أكثر من ثلاث سنوات كي يعاد تسوية وضعه مع إدارة الإذاعة الرَّسميَّة، التي باتت تعرف، في هذه المرحلة، بإسم «إذاعة لبنان» بديلاً من «دار الإذاعة اللبنانيَّة من بيروت»! ويوم دخل الأستاذ جدايل مبنى الإذاعة عائداً، بصورة رسميَّةٍ، إلى ربوعها، أصرَّ حرسُ الإذاعة، حُبَّاً منهم بالأستاذ شفيق جدايل، على تقديم التَّحيَّة الرَّسميَّة له وعزف نشيد التَّعظيم عند مروره.

نَظَمَ شفيق جدايل عدداً من الأناشيد، التي لحَّن معظمها الأخوان فليفل؛ ومن أَشْهَرِ منظوماتهِ هذه «نشيد الكشَّاف» ونشيد «أخي في العروبة هَيَّا بِنا» الذي كانت تذيعه إذاعة صوت العروبة باستمرار إبَّان أحداث سنة 1985 في لبنان. ونظم، كذلك، قصائد غنائيَّة عديدة، منها قصيدة، غَنَّتها السيِّدة فيروز، مطلعها «تعال تعال كفاك دلال». وواقع الحال، فإنَّ شفيق جدايل الشَّاعر، ما انْفَكَّ مجهولاً من كثيرين؛ بل لا يكاد النَّاس يعرفون سوى النَّزر اليسير والأقل من منظوماته، التي ما فتئت محفوظةً بين أوراقه الخاصَّة برعاية أسرته. وهذا أمر يستدعي الكشف عنها، والعمل على تحقيقها ونشرها، والسَّعي الحثيث إلى تعريف الأجيال بها؛ إذ هي منظومات وطنيَّة وكشفيَّة وغنائيَّة ودينيَّة واجتماعيَّة. ولا بدَّ من الإشارة إلى أن الأستاذ جدايل، فضلاً عن وضعه الأناشيد الكشفيَّة، اشتهر بأنَّه واضع لكثير من «الصَّرخات الكشفيَّة» التي ما برح كشَّافون كُثر يردِّدونها، وقِلَّةٌ منهم تُدرك أنَّ واضعها هو شفيق جدايل وأنَّها صوته الكشفيّ الذي ما انفكَّ يضجُّ في وجدانهم.

إبَّان هذه الأحداث في حياة «الصَّوت»، صوت شفيق جدايل، كان شفيق قد تزوَّج سنة 1948 من الآنسة كَوْثَر مُحَمَّد علي الكردي؛ وأَنْجَبَ مِنها ثلاثةَ أولادٍ، أوَّلهم «رلى»، ويقال إنَّ هذا الاسم كان يُطْلَقُ لِلْمَرَّةِ الأولى في التَّاريخ على فتاةٍ في اللُّغة العربيَّة، إذ هو في الأصل اسم لقبيلة عربيَّة قديمة؛ ثمَّ كان «أُسامَة» وتلاهُ «بِلال». أمَّا رُلى، فقد درست «الحقوق»، وتخرَّجت في معهد القضاء في لبنان قاضٍ؛ وهي اليوم من نخبة القضاة التي يشار إليها بالبنان. وأمَّا أسامة، فقد تَخَصَّصَ في «الهندسة الميكانيكيَّة والطَّيران» في جامعة برمنغهام في بريطانيا؛ وهو اليوم من كبار أساتذة العلوم الميكانيكيَّة والطَّيران في «جامعة البلمند»؛ وله مؤلَّفات من أشهرها كتابه عن تاريخ الطَّيران في لبنان. وأما بلال، فلقد درس اختصاص «إدارة الأعمال» في «الجامعة الأميركيَّة في بيروت»؛ وتابع تحصيله العلمي في «جامعة برمنغهام» في بريطانيا؛ وهو اليوم مدير اقتصاديٌّ لأحدى الشَّركات الكبرى في دولة الإمارات العربيَّة المتَّحدة. ولقد أحبَّ شفيق جدايل عائلته وأخلص لها وتفانى في سبيل رعايتها. وكان شفيق جدايل يعتبر بيته مملكته التي يحيا لأجلها؛ فأحبَّ زوجه وأكرمها وأحسن رفقتها، وكانت رفيقته في كثير من جولاته السِّياحيَّة في الخارج في سويسرا وفرنسا وروسيا وبلغاريا واليونان والهند ومصر وتركيا والمغرب والجزائر وتونس والسعودية والإمارات والبحرين والأردن وفلسطين.

نالَ شفيق جدايل في يوم الثلاثاء الواقع فيه 17 آب سنة 1954، من الدَّولة اللبنانيَّة، «وسام المعارف» من الدرجة الأولى؛ وقد علِّق هذا الوسام على صدره في احتفال أقيم في الملعب البلدي في بلدة بحمدون. وصدر في يوم الأربعاء الواقع فيه 6 تشرين الثاني سنة 1985 مرسومٌ خاصٌّ بمنح الأستاذ شفيق جدايل «وسام الأرز الوطنيِّ»، من رتبة ضابط؛ وأعدَّ، شفيقٌ، قصيدةً خاصَّةً لِيُلْقيها في هذه المناسبة، التي تقرَّر أن تكون في موعدِ الاحتفال السَّنويِّ بـ «عيد الاستقلال» في لبنان، يوم الجمعة الواقع فيه 22 تشرين الثَّاني من تلك السَّنة؛ والاحتفال السَّنويِّ بـ «عيد الاستقلال» في لبنان مناسبةُ وطنيَّةٌ طالما نقل شفيق جدايل وقائعها عبر أثير الإذاعة. ومع فجر يوم الجمعة هذا، وبينما كان شفيق جدايل نائماً في فِراشِهِ، فاجأته نوبة قلبيَّة حادَّة، سبَّبت وفاته، يوم الاحتفال بتعليق وسام الأرز الوطني من رتبة ضابط على صدره.

هكذا، غاب صاحب «الصَّوت»؛ غاب وجه شفيق جدايل عن سطح هذه الأرض، وأنزرع جثمانه، في مدافن الباشورة من مدينة بيروت، بخوراً يتضوَّع تجربةً وطنيَّة رائعةً في حبِّ لبنان. وظلَّ «الصَّوتُ»، صوت شفيق جدايل، وما بَرِحَ يَصْدَحُ في الآفاقِ عَبَقَ لُغَةٍ عربيَّة صافيَّة هي لذَّةٌ للسَّامعين ومثالُ أداءٍ وجمالُ إنشاءٍ هما قدوةٌ للمريدين.

كان نَظْمُ الشِّعرِ هوايةَ شفيق الكبرى، كما كان له وَلَعٌ بِجَمْعِ الطَّوابع البريديَّة وهوس في أرشفةِ قصاصات الصُّحف، وحبُّ جارف للرَّحلات والسِّياحة في الخارج. أمَّا المنظومات، فما انفكَّت محفوظةً بعناية أولاده، تنتظر أن تُنْشَرَ وتعود محيِيّةً بنشرها أصداء وترجيعات من ذلك «الصَّوت»، صوت شفيق جدايل. وأمَّا الطَّوابع، فما زالت قابعةً، بالتَّرتيب الذي تركها فيه شفيق؛ تشهدُ لأحداث وتواريخ ومراسلات؛ في حين أنَّ قصاصات الصُّحف صارت أوراقاً مُكَدَّسةُ تكاد تحجبها، في هذه الأيَّام، طُرُقٌ جديدةٌ لِلْأَرْشَفَةِ يُقدِّمها المِحْسابُ (الكومبيوتر) وترفدها مواقع البحث الإلكترونيَّة؛ بيد أنَّ في هذه القُصاصات ما قد يشهدُ لأحداثٍ ونصوصٍ أثارت اهتمام جامعها، وقد تساعد هذه الشَّهادة على فهمٍ أَشد عمقاً وموثوقيَّةً موضوعيَّة لشخصيَّته. أمَّا الرَّحلات، فقد استمتع بها شفيق حتَّى الثمالة، وأبقى صوراً تحفظ بعض ما كان منها، وكثيراً من ذكريات الحبِّ والمحبَّة في نفوس من كانوا من مرافقيه فيها.

للمربِّي الأستاذ شفيق جدايل، طلاَّب، عبر مقاعدِ الدِّراسة، أكثر من أن يُمكن إحصاؤهم؛ وللقائد الكشفيِّ شفيق جدايل، كشَّافون عملوا تحت قيادته الكشفيَّة أكثر من أن يُعَدُّوا. وللأديب المذيع شفيق جدايل مِنَ المُريدين، العرب والأجانب، الذين جعلوا من أدائه للعربيَّة نبراساً، من هم منتشرون لليوم في أصقاع الأرض كافَّة.

شجَّع شفيق جدايل كثيراً من الفنَّانين على العمل والانتاج وإغناء المكتبة الفنيَّة للإذاعة في لبنان؛ ومن هؤلاء الفنانة سعاد كريم والفنَّان وحيد جلال؛ كما اكتشف المُمَثل محمود سعيد وشجَّعه على العمل، وخاصَّة في مجال الأداء الإذاعي. ومن جهة أخرى، فقد درَّب عدداً كبيراً من اللبنانيين والعرب، مِمَّن امتهنوا العمل الإذاعيَّ في لبنان والخارج ورعاهم، مثل السَّيدات أنطوانيت ملُّوحي وسُعاد قاروط العَشِّي وسُعاد ماجد والأساتذة عصام عبد الله وأحمد غندور ومحمَّد الصّيداني ومحمَّد حجازي.

لعلَّ من أبرز ما اشتُهِر من صفات شفيق جدايل أنَّه كان شديد الثِّقة بالنَّفس، مخلصاً لآرائه والتزاماته وأهله وأصدقائه وكلِّ من يتعامل معه. ولعلَّ من أجمل ما يُذكر به، من قِبَلِ عارفيه، أنَّه كان يتمتَّع بشفافيَّةِ المَحَبَّةِ والحرصِ على الخيرِ والتَّمَسُّكِ بالحقِّ والإصرارِ على التَّعاونِ مع الغَيْرِ وقَبولِ الآخرِ واحترامه له والالتزام بالتَّواضع والحياء. ولكم شَهِدَ من كانوا على صلة به على تفانيهِ في العملِ وتأديتهِ له كاملاً، وعدم التَّواني عن تأمين النَّجاح حتَّى لأدقِّ تفاصيلِ هذا العملِ وأكثرِها هامشيَّة. ويَشْهَدُ له كثيرٌ من عارفيه في الحقلِ التَّربويِّ إيمانه بضرورةِ إتاحة الفُرَصِ للأجيالِ النَّاشئة لأخذ ما تستحقّه من فُرص النَّجاح؛ فضلاً عن اعتباره التَّعليم رسالة اجتماعيَّة وحضاريَّة وثقافيَّة. ويروي ذَووه، والنُّخبةُ ممَّن عاشوا معه عن قُرْبٍ، الأخبارَ الموثَّقة عن إيمانه المطلق بالله ورسالة الإسلام؛ كما يَذكر له، رفاقه الكشَّافون، إيمانه بأهميَّة الحياة الكشفيَّة وأساسيَّتها في بناء الإنسان. ويشهد أولاده على إيمانه بأساسيَّة الأسرة في حياته والتَّفاني في سبيلها. ويشهد له وطنه، لبنان، على إيمانه الصَّادق والثَّابت، قولاً وعملاً، بالوطن وجيشه وشعبه وأرضه. وإن كان من شهادة تُضاف إلى كلِّ هذا الخير، عن شفيق جدايل، فما من أحدٍ، سمعه أو قرأ له، إلاَّ ويشهد له بالتَّمكُّنِ الأنيقِ والجماليِّ اللَّبِق من العربيَّة لغةً وتعبيراً وأداءً.

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي