بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 أيار 2020 12:00ص شمس المعنى في غياب صلاح ستيتيّة: المساحة المشرقة لحوار الحضارات

الشاعر الراحل صلاح ستيتية الشاعر الراحل صلاح ستيتية
حجم الخط
غاب الشاعر والدبلوماسي الكبير الصديق صلاح ستيتيّة، عن عمرٍ يناهز الـ 93 سنة حافلة بالعطاءات المثقلة بالإبداع المتنوّع. وشاءت الظروف والمصادفات الغريبة أن كنت منذ يومين، حبيس الكتب بسبب السيّدة الكورونا، أتقفّى الملفات ومشاريع المخطوطات والنصوص المشقوعة والمبعثرة أشذّبها من فوق الرفوف، لأعثر على ملفٍّ لمواد متفرّقة مكدّسة بهدف نصّ بعنوان: «ليل المعنى» لصلاح ستيتيّة، مساحة مضيئة لحوار الحضارات. يكاد الملف يختصر ملامح شخصيّة الراحل الكبير، وفيه ملاحظات ومدوّنات حول كتاب «ليل المعنى.. مواقف وآراء في الشعر والوجود»، دار الفارابي، 1990، 250 صفحة. 

الكتاب هو كناية عن حوارٍ طويل أجراه الزميل المرحوم الدكتور جواد صيداوي مع صلاح ستيتية متناولاً معظم الأمور التي هي على علاقة بالشعر والفلسفة والوجود والفنون. وقد أثبت في آخر الكتاب، تعريفاً شاملاً بنتاج ستيتيّة عبر شهاداتٍ في السفير/الشاعر صلاح ستيتيّه جاءت من كبار الشعراء الفرنسيين مثل آلان بوسكيه والمستشرق أندريه ميكال ونجم الدين بامّات وإيف بونفوا ورينيه شار وغيرهم والذين كانت تجمعنا إليهم أحياناً الشاعرة الصديقة فينوس خوري غاتا في دارتها في باريس، والتي كان لها الفضل الكبير في تقريب الصحافيين من دوائر الثقافة والشعراء الفرنسيين.

عرفت صلاح ستيتيّة في العام 1974 في باريس شاعراً ودبلوماسيّاً مرموقاً في الأوساط الدبلوماسيّة والشعرية والجامعيّة في فرنسا. وشاءت ظروف الغربة القاسية إبّان الحروب المشتعلة بلا هويات واضحة في لبنان إلى عملي في مجلّة «المستقبل»، أن تتمتّن الصداقات لأكون صلة الوصل التي جمعت المستشرق الفرنسي أندريه ميكال الأستاذ المشرف على أطروحتي للدكتوراه في الآداب والعلوم الإنسانيّة في جامعة السربون III بعنوان «مدخل إلى الحداثة العربيّة» بالشاعر صلاح ستيتيّة. كانت صدفةً رائعة خصوصاً وأنّ المستشرق ميكال قضى حياته الأكاديميّة على دروب ألف ليلة وليلة يتقفّى خطى غريب وعجيب وآثارهما. ولطالما تحلّقنا مع آخرين من الأدباء والشخصيات حول ستيتيّة في دارته المزدانة  جدرانها وسقوفها باللوحات الفنيّة الرائعة. لم يكن يترك ستيتيّة فسحةً من جدرانه من دون أن يرفع فيها لوحة، وقد أهداني لوحةً من رسمه معلّقة فوق جدارٍ منزلنا الصيفي في القليعات.

بلغ كتاب «ليل المعنى» الرقم القياسي للمبيعات في معرض الكتاب في صيدا، وشكّل مادةً إطراءٍ وكتاباتٍ وكأنّه صار ملازماً آنذاك لأحاديث الصالونات الأدبيّة والمثقفين والشعراء والدبلوماسيين في بيروت. يومها أقام له الصحافي سعيد طه تكريماً في صالونه الأدبي في منطقة الظريف من بيروت، قدّمت فيه نصٍّاً مقتضباً، ودار حوار لصلاح ستيتيّة مع المدعوين من الأدباء والشعراء والإعلاميين. لقد أثار فضولي أنّ نفوراً بان ملحوظاً من هذا الإحتفاء الإعلامي بالكتاب عبر بعض النصوص النقدية القاسية التي نشرت والتي كان يمكن إختصارها بأنّ صلاح ستيتية خلع شهرته على الأوساط الثقافية والدبلوماسية ليوظّفها ترويجاً لمقابلته الطويلة تلك في «ليل المعنى». بالمقابل، إعتبر آخرون الكتاب نصّاً جيداً طازجاً في عالمٍ لبناني أصابه ملل الحروب، وبات بحاجةٍ إلى خلخلة أو هزّة ربّما نجح في نشرها هذا الكتاب. إنّ معظم ما كتب في «ليل المعنى»، أصابته الإطراءات غير الواضحة والخطابيّة وعدم الهدوء والموضوعية النقيّة في قراءة هذه الحوارية الطويلة التي تختصره كما علّق ستيتية لي شخصيّاً يومذاك.

< تجاوز الوطن المنشود:

لست لأحسم الآن هذا الجدل القديم الذي خلّفه «ليل المعنى»، لشعب كان يعيش ليلاً طويلاً راح يبزغ صباحه في الـ 1991. الجدل مفتاح القيمة، والإختلاف في الموقف والنظرة مؤشّر غنى. وقد لا أضيف كثيراً، إن كتبت، اليوم بغيابه، أنّ تجربة صلاح ستيتيّة الأدبيّة فذّة لشاعر لبناني كتب باللغة الفرنسيّة المفعمة أساساً بعطور الشعر، وقد جعل منها أداةً طيّعةً للتعبير عن جذوره المشرقية الإسلاميّة، وعن عالمه الطبيعي وشهرته الغربيّة، فضلاً عن معالجته لشؤون الأدب العالمي، وبخاصةٍ الفرنسي. هذا يعني، أنّ وراء اللغات والمعاني، ووراء الحدود والثقافات المنكمشة اليوم بفضل الأوبئة، أو المختلفة وطناً عالميّاً للشعراء، نقيّاً طاهراً، قد يصبو إليه شعراء العالم من منطلقات ارتباطاتهم اللغوية والثقافية الرحميّة الأولى، إدراكاً لما أسماه صلاح ستيتيّة «جوهر الوجود». من بين هؤلاء الشعراء، من يبلغ حدود الوطن المنشود ويتجاوزه مثل صلاح ستيتيّة، ومنهم من يسقط قبل بلوغها، فيُعذر، كما قال أمرؤ قيس.

أثبت صلاح ستيتيّه، في شعره ونثره، أنّ أصداء المعاني الإنسانيّة الكبرى تتقارب في العديد منها، وتتصافح وتتعانق من دون أن يعيقها أيّ نوعٍ من أنواع الحدود، ماديّةً أكانت أم معنويّة. ولا بدّ لوطننا العربي، في سعيه إلى تعميق الحوار مع الثقافات العالميّة والشعر العالمي، بوجه خاص، أن يزيل الكثير من الحدود لينجح في مسعاه الحواري لخلاص الشرق والغرب. هكذا نفهم أهميّة هذا الحوار مع صلاح ستيتيّة. إنّه على هذا الصعيد، رائد كبير.

وعلى الرغم من وضع الخطوط تحت الأصقاع العالية التي بلغها صلاح ستيتيّة في الشعر وفلسفته والوجود، كما في ثقافته الفرنسيّة العميقة والأنيقة، فإنّ هذا اللون الحواري الذي أختصر نفسه فيه، كبابٍ واسع للمعرفة أو لتذكّرها أو إيقاظها، ليس جديداً في رحاب الأدب. أشير هنا الى الحوارات الإغريقيّة التي ما زالت تنطق بها قبب اليونان وأثينا بالتحديد منذ ما قبل التاريخ الميلادي، تأسيساً للفلسفة واستقبالاً للأسئلة الكبرى التي أفضت بالإنسان إلى الإيمان. وقد لجأ الشاعر أدونيس إلى هذه الأشكال الحوارية المعرفيّة، في كتابه «المطابقات والأوائل»، كما أتقنها بالتجربة البيّنة المفكّر انطون مقدسي في مجلّة «مواقف» عدد 35.

«ليل المعنى» لصلاح ستيتية، تجاوز الحوار الصحفي ولامس بدايات الحوارات الفلسفيّة، لا من حيث المضمون بل في بروق ورعود كانت تحصل في ملاعب الأسئلة والإجابات.

كيف؟؟؟

بين علامات الإستفهام والنقاط الختاميّة:

لا تموت العلاقات بين علامات الإستفهام والنقطة الختاميّة. وليس هناك من خواتيم في ميادين المعرفة. علامة الإستفهام هي بذرة المعرفة الحيّة الطفوليّة المتطلّعة بنهم جينيّ إلى التشبّع بالمعرفة. وهذا دليل يومي على النصوص المكثّفة، وفي رأسها السماوية منها، أو تلك التي تتماهى بالسماء، فتأتي غالباً مشوبةً بالغموض.

الواقع أنّ شمس المعنى لا ليله لا تشرق إلاّ عندما تصبح العلاقة علاقات، وهذا ما لم ينتبه إليه المحاور جواد صيداوي. كان عليه ألاّ ينسى أو يهمل النقطة الختاميّة التي تُستعار أساساً من تحت علامة الإستفهام لتفتح آفاقاً جديدة لعلامات استفهام لا تنتهي أو فيها، على الأقلّ، حنين كبير إلى علامة الإستفهام التي أخذت من تحتها ولم يشبعها صلاح ستيتية من تجربته كفايةً.

ما يثيرني، إذن، في جدليّة السؤآل والجواب والغياب، توخّياً للمعرفة، تلك النقطة المسماة خطأً ختاميّة بقدر ما هي محفّزة تفرّخ عشرات الغابات الإستفهاميّة من دون تردّد. بقيت تلك العلامات الإستفهاميّة بلهاء لأنّ المحاور لم يغطس مع من يحاور، أو أنّه بقي أسير أناه ولقبه الأكاديمي وتشاوفه إذ كان السؤال يتطاول على المبدع محاولاً جرحه. 

أليس هذا ما يحصل في ملء شاشات اللبنانيين والعديد من إعلامييهم الأقلّ تواضعاً. لنختصر بالإقتراح، أنّ السؤال هو الجسد والجواب هو الجثّة التي قد تتّخذ أشكالاً متنوعة ومختلفة من الحياة. هذه هي القاعدة في حوار الإنسان والإنسان عندما يتلاقح الشاعر/الطفل بالوجود ليصبح سؤالاً بدوره دائم الدهشة.

كان السؤال في «ليل المعنى»، جاهزاً مسبقاً في جيب المحاور، مكتوباً أو مترجماً أحياناً ومدروساً يحمل الأفخاخ للإيقاع بالمجيب صلاح ستيتية الذي كان يدرك ذلك بدماثته الفرنسيّة لأنّ الجواب ما عاد يلمع كبيتٍ من الشعر. بهذا المعنى، فقدت بعض الأسئلة خفّتها وحركتها وبانت علامات الإستفهام تقريريّة يابسة، أو رزينةً حكيمةً تماماً كما الموت، لكنها بانت وقد قصّرت في قبضها على إشراقة الحياة في برودة الجواب الظاهري الذي كان صلاح ستيتية يرمقه ببسمةٍ من رأس شفتيه الدقيقتين.

لُمح ستيتيّة الدخّانيّة: 

قد يكون مفيداً، الإستطالة في هذا المجال، الذي يفيد أهل الإعلام. إنّ علامات الإستفهام في «ليل المعنى» كانت خجولة، مربكة تروح في القواميس والمعاجم لاستكمال زينتها وكأنها فقدت نقاطها سلفاً. أحياناً كانت تشدّك بهجومية تغطّي خجلها فتأتي طويلة صالحة لمقدمات أو تراكم سؤالاً فوق آخر فيتعثّر الشاعر ويجيب على السؤال الأخير، ويتحوّل المجيب إلى السائل ليسأله عن الأسئلة التمهيدية التي ذكرها فتقع الكارثة عندما ينسى هذا السائل أسئلته التمهيديّة.

لنوضح أكثر:

سؤال: هل فقدت العلاقات بين نقاط الختام وعلامات الإستفهام؟

الجواب: إلى حدّ واضح في «ليل المعنى».

السبب: واضح لمن يقرأ مقاطع الكتاب الأصل، في نظري، أي «ليل المعنى» لأكثر من مرّة، الذي يختصر أو يدّعي اختصار صلاح ستيتيّة. هل كان يجب على المحاور (بكسر الواو) أن يتعالى أو يتشاوف على المحاور (بفتح الواو). نعم شرط التضاهي في الثقافة والذاكرة واللمعة، لا في تقصّد الإبداع وهو ما أبقى على الوديان السحيقة بين الأكاديميا الشرقية السائلة والإبداعية الغربيّة من أصول شرقيّة الدمثة غير الخجولة.

الجميل في الكتاب الذي اعتبره صلاح ستيتية مختصره، أنّه احتوى السائل فأنقذ المحاورة والمحاور، بلمح معرفيّة تشابه الدخّان الشعري أو تنتهي بشكل الدخان الذي لا يمكنك القبض عليه في حوارات الفن والوجود وتلاقح الثقافات والحوارات الحضارية.

ذكّرني صلاح ستيتية في حواريته الطويلة بـ جبران خليل جبران الذي صرخ في أحد نصوصه: «كلمتي لم يظهر منها سوى الدخان»، وصلاح ستيتية قالها في آخر ليله الملبّك بالليل: «الإنسان اللغوي هو الإنسان الظل».

هذا من حيث شكل آداء النص الحواري الذي نتناول قربانةً فوق جثوان الصديق الراحل. إنّه نصّ لو شئنا أن نضع له عنواناً آخر، بدلاً من «ليل المعنى» لاستقرضنا عنوان «البحث عن الجذور» لخالدة السعيد قرينة الشاعر أدونيس الذي لم يغب تماماً حصاناً للشعر العربي الحديث، وهو أقلّ حضوراً ربّما في ذهن السفيرصلاح ستيتيّة.

< صلاح ستيتيّة: العودة إلى الجذور

ورد في «ليل المعنى» للسفير والأديب صلاح ستيتيّة:

1- «هناك ارتباط لمفهومي الزمان والمكان من منطق ارتباطي بجذوري الإسلامية والعربيّة» (ص55). و«ليس لي ولن يكون لي من معنىً إلاّ بالعمل على تحديد ذاتي ضمن إطاري العربي والإسلامي» (ص7).

لو وضعت خطّاً تحت كلمتي «إرتباطي» و«تحديد ذاتي»، وسألنا معاً:

هل يربط الدخّان ويحدّد ضمن المناخ والمنهج الديكارتي الذي ترعرع فيه صلاح ستيتية بالغاً الذرى؟ وهل يمكن للقصيدة أن تربط بكونها الإبداع في عالم يميل إلى التحلّل من الأغلال كلّها؟

يوميء لك الجواب، من مكانٍ آخر في الكتاب، تعبق بالشهرة والنصر، فيقول: «أيقنت أنّ لا سبيل أمامي لتحقيق أي نصر إلاّ بالعودة إلى جذوري... إلى أصالتي العربيّة...». وكأنّه يكتب في زمن الكورونا. إستشراف المبدعين إنّ في القضية نصر لشاعرنا. ومن يخلع ثيابه يلفحه الصقيع وقد يتجمّد وهذا ما يحصل اليوم.

يستوقفنا التركيز في الكتاب على النصر ونبحث عن ذاك النصر الإجتماعي في المجد العالمي الذي لازم شاعرنا طويلاً.

< اللقاء الأخير:

المرّة الأخيرة التي التقيت فيها صلاح ستيتية، كانت في مكتبه برئاسة الوزراء. تحدّثنا في الفنون، وأشار إليّ مفتخراً بلوحةٍ مرفوعةٍ فوق الجدار تمثّل حرف الميم النافر وتعود إلى ما قبل الميلاد. أجبته بأنّ الميم تاريخ الوتد الأبدي في لبنان. إنّه دائرة هذا الحوض المشرقي الذي انطلقت منه النبوءات مع أنّها بالميم بدأت أسماء الرسل وبهم رُبط الشرق امتداداً نحو فقر العالم كلّه. يومها كنت أشير إلى تذكيره بـ «ليل المعنى»، وهو لم يدرك، بالرغم من رهافته، أنّني كنت قد بدأت فعلاً بنقد «ليل المعنى» منذ تلك اللحظة، التي أعقد لواءها اليوم لدى سميّه الراقي الصديق صلاح سلام.

أكاد أختصر البحث عن الجذور لدى صلاح ستيتية كان شعراً رؤياويّاً، لكنّه في ليل المعاني، بدا أكثر كثافةً يرفع الغطاء الناعم عن شعورٍ قديم بالذنب من شاعرٍ عالي الثقافة والرؤيا والسلوك المرهف المميّز. هو شعور غامض لم أدركه، أسقطه الرجل عبر نصٍّ دسمٍ ذي طابع إستشراقي يكاد يتنكّر له بالفرنسيّة:

Une Culpabilité non Justifiée projetée dans un Texte en avant d’Orientalisme.

أهو الإستشراق؟ لا.لا. 

بعض الإستشراق قد أنسبه لأستاذي جاك بيرك أو أستاذي أندريه ميكال أو لويس ماسينيون، ولمَ الخجل من أن ينتسب شاعرنا وسفيرنا إليه. إنّه شاعر مبدع وحسبه كذا، كما قال أمين نخلة.

لِمَ هذا الغموض؟

لمقارعة غموض «ليل المعنى» بالغموض، والليل بالليل والسن بالسنّ.

غموض؟ لا!

إلاّ لقارئ متسرّع لم يقوَ على تخوم شاعرنا أو يجهل بالطبع شعراء فرنسا والعالم الشفّاف ونظريات الإبداع الشعري. لا جديد تحت الشمس. من بودلير في الشعر إلى آنشتاين في الكشف العلميّ إلى عصر الإلكترونيات اليوم، إكتملت دائرة المظلّة المعرفيّة تماماً ليعود العالم إلى رحمه الأوّل ويعود شاعرنا إلى حضن ربّه، وكلّ الناس تبحث عن جذورها من لبنان أوّلاً إلى أميركا أوّلاً.

أليس الشعر مقابل الممنوع هو مولّد الغموض في نصّ صلاح كما قال لي الفنّان التشكيلي محمود أمهز؟ أيستقطب الشعر الفنون وفي هذا كسر للسلّم الذي رسمه أرسطو للفنون واضعاً الموسيقى في أعلاه ومن بعده الرسم ليحلّ الشعر في الدرجة الثالثة؟

أليس صحيحياً من أنّ الفنون كلّها تمطّ أعناقها نحو فنّ الموسيقى؟ بلى.

الغموض من قبيل الصداقة - التقديس. الغموض مقابل الصداقة يستر المعاني ويترك الليل ليلاً.

قد ينقز القارئ من التركيز على قضايا مثل الإلتزام في الشعر، فتظهر القصيدة سلاحاً في معارك الوجود والتحرير والإستقلال، أو توجّهاً فلسفيّاً يتساوى فيه الشعر بالكون. إنّ الحكم في الكتاب على جيل الشعراء الفلسطينيين بأنّه «لن يبقى منهم سوى فدوى طوقان ومحمود درويش وسميح القاسم»، أمر فيه نوع من التكبير والجور.

وقد ينقز أيضاً بالقول «أنّ الشعراء أهمّ من الكتّاب» وهذا بحاجةٍ إلى تعليل لقارئ سقطت لديه تلك الفواصل بين الأنواع الكتابيّة إذ تتقدّم الرواية على القصيدة اليوم.

من يعرف مدى العلاقة المتينة الباريسية التي أوثقت الكاتب المسرحي اللبناني جورج شحادة (توفي 17 كانون الثاني 1989) وبين صلاح ستيتية الذي غادرنا أمس (19 أيّار 2020) يدرك معاني الإبداع في صداقات الشعر والشعور والصور. 

كتب عصام محفوظ (توفي في 3 شباط 2006) جاري في الحمرا ببيروت وفي مرجعيون قرب جبل حرمون، أنّ «جورج شحادة هو ملاك الشعر والمسرح الطافحة بالبراءة والطفولة التي تستقبلك في نصوص صلاح ستيتيّة». الملائكيّة سليلة الطفولة أخذت نصيبها في «ليل المعنى»، وكادت تنحصر زوّادةً سخيّةً للإبداع من بودلير ورامبو إلى جيرار دونرفال.

< يبقى الغياب طفلاً طريّاً:

قد يسأل قاريْ: لماذا غاب كولردج الشاعر الإنكليزي عن نصّ ستيتيّة، وهو من سكن نقاء الأطفال في كتاباته الإبداعيّة مقرّاً بأنّه يحتفظ بدواخله بالطفل الصغير مثل كولردج الذي لم يكبر حفاظاً على قجّة الإبداع؟

أسئلة كثيرة توخيت عبرها رثاء صلاح ستيتيّة، وعدم الوقوع في سدود النقاط النهائيّة، كي أبقي على العالم سؤآلاً، يضيء قناديل صلاح المشعّة للسير الهاديء في ليل المبنى الجديد أكثر من الإستغراق في ليل المعاني التي تبكيه اليوم.

لمن يرث المؤلّف الراحل، أن يضع ما أسماه «الليل الأسود والأبيض» وهو فصل تعريفي بصلاح ستيتيّة، في أوّل الكتاب لا في آخره، وهذا أجدى بالقرّاء الذين قد يجهلون عظمة الشاعر الغائب.

وأيضاً يمكن إيراد التواريخ أو الشهادات التي كتبت في صلاح ستيتيّة، بما يسهّل فهمها، أو على الأقلّ، لتفصح عن دهشة الغرب المعاصرة فيه وفينا كشرقٍ تشرق الشمس في أحضانه لتغيب هناك في البعيد من دون أن تلوّح بالوداع. يحاول الغرب دوماً كتابة قصيدته أو تجديد ولادتها عبر انصرافه إلى الشرق/الينابيع بالمعنى الواسع.

وأخيراً، في ليل الشاعر الغائب جسداً، الكثير الكثير من هذه الشموس لرجل قيّمٍ في مساحة محجورة تنهار فيه القيم تباعاً حجراً إثر حجر.