بيروت - لبنان

اخر الأخبار

2 حزيران 2020 12:00ص صلاح ستيتية

حجم الخط
يغيب وجهه المشرق كالشمس، الحبيب إلى القرّاء والمثقفين، على ندرتهم في هذه الأيام.

هوذا رمز من رموز الأدب الجامع بين ضفاف المتوسط، وبين عقل الديكارتية الفرنسية والروحانية المشرقية.

جغرافيته تذوب، أناويته تلج الى غيريّته أو قل العكس، ما همّ، وهو الآن يهجر قفصه ليحلّق طليقا في عالم الخلود، بعد أن وفّق بين القديم الثابت والجديد المتحرّك، بين الدين والعقل، الى أن بدأ ثقل السنين يخنق منه الصوت.

يترك صلاح ستيتية اسماً كبيراً حبَّره بنضاله الموصول، أدخل به دنيا العرب الى آفاق مستقبلية عالمية في إطار من النصلامية الحضارية، أو الجوهرودية (التوفيق بين الجوهر والوجود) أو المدرحية التي توفّق بين المادة والروح، وصولا الى أغوار اللاوعي وعوالم الألغاز والاستعارات واللامألوف.

عُرف أسلوبه الكتابي بسلامة التعبير وسهولة المتناول ووضوح الصورة، وقد أكسبه تمرّسه بصناعة الأدب، طواعية كبيرة، فضلا عمّا كان اختزنه من معارف. عُرف بطلاوة الحديث ورفعة التهذيب ودماثة الأخلاق، وهي ميزات قدّرها فيه قرّاؤه وأصدقاؤه وقادرو قدره.

نظرٌ ثاقب، ذكاءٌ وقّاد، تُقبلُ على درره في شوق ولهفة وتغادرها على اندهاش وإعجاب، لما يضمّنها من أفكار مبتكرة تحمل اسمه بلا توقيع، وآراء راجحة بلا تفريط، يعرب عنها بلغة فرنسية أنيقة كثيرا ما تهبط سلاما على القلوب، وأحيانا تتساقط كأنها الحمم فتحدث دويّا كبيرا. وقد فتح عليه من أسرار لغة موليير ما لم يُفتَح على أهلها.

أُسندت إليه مهمات دبلوماسية وصحافية، فقام بأعبائها بهمّة ونشاط، وأنجز أعمالا ووضع مآثر تشهد كلها له بما كان عليه من دأب في العمل وسعة في النظر ورغبة في ازدهار مجتمعاتنا في الوطن وتحت كل سماء. جهد على الخصوص في أن يبذل ما في وسعه ليعزّز العلاقات التي تشدّنا الى فرنسا الدولة الصديقة.

ظلّ وفيّاً لما انتدب نفسه له من رسالة في حقل الكتابة وسواها حتى أيامه الأخيرة.

رأى أن النور ينبثق من الشرق، ولكنَّ أشعته الكاشفة بلغت عوالم غربية وصولاً إلى شواطئ اليابان وما إليها. قصد الأذهان من طريق التأثير العاطفي والجمال الفني. تأنّى في كتاباته وتخيّر من الألفاظ ما يعبّر تمام التعبير عن اختلاجات عاطفته وايحاءات مخيلته. وهو يُلزم كتاباته موسيقى الأسلوب الحديث، وتأثير الثقافات الأجنبية، مما يرفعه الى مصاف الكتّاب المساهمين فعلاً في النهضة الفكرية والأدبية.

جمع صلاح ستيتية روحانية السيّدة العذراء ومذاهب التصوّف الى محبة الناس، واعتبر دوما ان «القصيدة هي اللغة الأولى، وهي بمثابة مدخل الى سرّ الإنسان». وهوذا الآن يغادر وادي الدموع التي لطالما انهمرت من مقلتيه على وطنه الجريح، عسى أن يدخله بارِئُه دار النعيم!





أستاذ في المعهد العالي للدكتوراه