بيروت - لبنان

اخر الأخبار

23 تموز 2020 12:00ص ضرورة الفلسفة

حجم الخط
لو قُدّر لي أن أجيب عن السؤال: ما الفلسفة؟ بإيجاز، لقلت: انها قهوة تُحتَسى وكفى!

ليست الفلسفة ديانة أو مدّخراً من حكمة أو أسلوباً علاجياً أو علماً صحيحاً، انها ميدان فريد يحفّز فينا الفكر!

يهبط الفكر محموماً إلى ما دون نفسه فينام، وأنّى للمرء أن يجيد التفكير وقوى الوظيفة والأسرة والملذات والتعب والشيخوخة الضاغطة تتآمر كلها لتحول دون أن يُعمِل ذاك المرء فكره. ثمة مسائل كبرى كمسألة الحب أو الموت أو معنى الوجود، تربكنا أحياناً فنحاول سبر أغوارها. ولكننا، ما إن نمضي في البحث فيها حتى نراها تتوارى. نتعثر بلفظة أو بتجريد أو بصعوبة في الفهم، أو ان أحساساً شديداً ما يخمد الشعلة الضعيفة التي تحرّك تأمّلنا الناشئ؟ ثمة تسلية تعرض فجأة أو انه يترتب علينا القيام بمهمة ما أو بابتياع سلع ما، وينتهي بنا الأمر عند هذا الحد. هكذا تحتجب المشاكل الكبرى فنطفق نطمئن إلى تفكير السماء قبل الخلود إلى الفراش أو في صباح اليوم التالي، أو في يوم آخر.. ولا نشعر بأننا في حالة تمكننا من مجابهة المسائل الكبرى على الرغم من انها جوهر وضعنا كبشر.

هنا يبرز دور الفلسفة عبر المطالعة أو الكلام. الفلسفة تنطوي على مذاهب ومراجع ومرجعيات وتاريخ خاص. ولكن، لا شيء من هذا، ذو شأن. فالفلسفة لا تكتسب كمعرفة. انها في مرتبة أخرى. والفيلسوف هو ذاك الذي يوقظـ تفكيرنا فيما الترهات كثيراً ما تخدّره. وروعة الإشارة الفلسفية في جهلنا كيفية ركون صاحبها إليها. فقد ينسج أسطورة أو يتوسّل برهنة أو يلجأ إلى التهكّم المولّد الأفكار. ونحن لا نميل إليه لمذهبه بقدر ما نميل إليه للطريقة التي يتبعها ليدهشنا ويحفزنا على التفكير. هكذا تغدو المفاهيم كافييناً منبّهاً، والأسلوب سكراً، والتفسير مِلعقة، والكتاب فنجاناً، وما يعوَّل عليه هو التأثير الوجودي للفلسفة ونوعية اليقظة التي تحدثها.

يختلف الفلاسفة حول خصائص الفكر ومواضيع أخرى. ديكارت يُركّز على اليقين الأول الداخلي الذي يبقى بعد شكّنا في كل شيء غير مستثنين العالم وجسدنا بالذات. أنا أفكّر إذاً أنا موجود. يجيبه نيتشه بأن الفكر قائم ما دام يريد ذلك وليس الأمر مرتبط بصاحبه. ليس الأنا، كما يقول ديكارت، هو شرط التفكير. فهذا افتراض محض ومجرّد ادعاء.

ليس الفلاسفة على وفاق. ولكن، ليس الأمر بخلل أو نقص في ميدانها الرحب. ففي تباين الآراء يسير الفكر ويتقدّم. الفكر هو ما احضنه في عمق أعماقي ولا يتمكّن الآخرون من التكهّن به أو انتزاعه مني. ولكنه ذو علاقة وثيقة باللغة الجماعية، ويبدو انه يتسرّب إليَّ كالنيازك المتساقطة في ليلة صيف... هل ما يجري في الداخل أم في الخارج؟ هل ديكارت على صواب أم نيتشه؟ المشكلات الأساسية مشرعة الأبواب. انها إشكاليات مفتوحة تحملنا على السفر في تضاعيفها. ونقاط الوصول هنا أقل أهمية من المسير في ذاته!

زبدة القول ان الحياة بلا فلسفة أشبه ما تكون بسبات عميق، ومراحل وجودنا التي نحقّق خلالها اكتشافات فلسفية ذات شأن، هي أيضاً، بتأثير خفيّ من الفلسفة في فيزيولوجيتنا، الأكثر تحفيزاً لعمل الفكر.



أستاذ في المعهد  العالي للدكتوراه