بيروت - لبنان

اخر الأخبار

13 أيار 2020 12:00ص عمر فاخوري الحلقة الرابعة ... (الصَّحافة والزَّواج والمُحاماة والآثار والفِكر السِّياسي)

رسالة من عمر فاخوري إلى أخيه وجيه، خلال تجوال عمر بين الآثار في سوريا رسالة من عمر فاخوري إلى أخيه وجيه، خلال تجوال عمر بين الآثار في سوريا
حجم الخط
أنهى «عمر فاخوري» متطلِّبات الحصول على «شهادة الحقوق»، في باريس؛ غير آنه آثر البقاء في فرنسا؛ إذ كان منغمساً مع «صلاح الدِّين اللبابيدي»، ابن مدينته بيروت وشريك سكنه الباريسي، في ارتيادِ اللِّقاءات الثقافيَّة والأدبيَّة والسياسيَّة، فضلاً عن زيارة المتاحف والمشاركة في نشاطات «الجمعيَّة العربية السوريَّة»، التي كان «عُمر» من مؤسِّسيها؛ كما كان «رياض الصُّلح» من قادتها، وفاقاً لما يرد في مذكرات نزار أسعد هارون، الصادرة سنة 2017.

واقع الحال، فإن اسم «الجمعيَّة العربيَّة السُّورية» ظهر سنة 1924، وفاقاً لما يرد في كتاب «سير عشر جامعات عربية»، الصادر سنة 2018، ليحل محل «جمعية الشباب السوريين». ظل «عمر» مدَّة على هذه الحال، إلى أن وصل شقيقه، «وجيه فاخوري»، إلى باريس لدراسة الحقوق. ويبدو أنَّ الشقيق «الوافد» تمكَّن من إقناع شقيقه «المقيم»، بالعودة إلى بيروت؛ فرجع «عمر إلى قواعده الأسريَّة والاجتماعيَّة في بيروت سنة 1924؛ بيد أنَّ رجعته كانت مطعَّمة بطموحاتٍ ثقافيَّة ورؤى أدبيَّة وتطلُّعاتِ فكريَّةٍ سياسيَّة اختمرت في كيانه جرَّاء معايشاته الباريسيَّة.

ما أن رجع «عمر فاخوري» إلى بيروت، حتَّى فتحت له دمشق أبواب بعض الصحف فيهما؛ وصار يكتب في صحيفة «الميزان» لصديقه «أحمد شاكر الكرمي»؛ فانتشرت مقالاته في أكثر من صحيفة؛ ناهيك بما كان ينشره في مجلَّة «الكشَّاف» في بيروت. وتذكر «وداد السكاكيني» في كتابها، أنَّ «المجمع العلمي العربيِّ» في دمشق، اختار، سنة 1927، «عمر فاخوري» «عضوا مؤازرا فيه.

 يبدو أن «عمر فاخوري» عمل، سنة 1927، مساعداً لرحَّالة وعالم آثار ودبلوماسي ألماني، هو المستشرق «ماكس فون أوبنهايم» (1860-1946) (Max von Oppenheim)؛ إذ كان يتنقل معه بين «دمشق» و«حلب» و«رأس العين» (محافظة الحسكة)؛ كما كتب، وفاقاً لما تذكره «وداد السكاكيني»، معظم فصول ما وضعه هذا المستشرق في كتابه عن الحياة العربية وتقاليدها. 

تزوَّج «عمر فاخوري» سنة، 1929، من «سلوى عثمان طيَّارة»، ابنة خالته الأثيرة لديه، وكانت في السادسة عشرة من سني عمرها؛ فكانت فرحة عمره ومنتهى سعادته، خاصَّة وأنها ما لبثت أن حملت ببكرهما؛ غير أنَّها غادرت الحياة مع وليدها، فيما كانت تضعه، وهي في عزِّ صباها؛ الأمر الذي ترك طابعه المؤلم والحزين والتشاؤمي على كل ما سيعيشه «عمر فاخوري» من سنين. وتروي مصادر عائلة «عمر»، إنَّه، وفور انتهاء مراسم العزاء الأوليَّة عند مدخل مدافن الباشورة، فإنَّ «عمر» أمسك بمفتاح منزله الزوجي، ونظر إلى السماء قائلاً بفجائعيَّة قاتلة «أخذتها وابنها؛ فهاك مفتاح البيت معهما»!

افتتح «عمر فاخوري»، في مطلع الثَّلاثينات من القرن العشرين، مكتباً للمحاماة في بيروت؛ وكان شريكاً فيه مع اثنين من أصدقائه وزملائه في جمعيَّة «الكشَّاف المسلم»، المحامي والشَّاعر «صلاح الدين اللَّبابيدي»، صديقه من أيام باريس، ومع الشَّاعر الانتقادي والإداري الحقوقي «عمر الزّعني»، رفيق عمره وأيام دراسته في «الكليَّة العثمانيَّة الإسلاميَّة». ومن أجواء المحاماة، وما فيها من سعي إلى الدفاع عن الحقوق، يبدو أنَّ ثمَّة مجالاً فُتِحَ لـ «عمر فاخوري»، يبقى ضمنه في مجالات الحِفاظ على حقوق النَّاس، ولكن يرتاح فيهِ إلى المرتَّب الدَّائم للوظيفة الإداريَّة الرَّسميَّة؛ فيُعَيَّنُ «أميناً للسِّجل العقاري» في بيروت. 

كانت بيروت، وكما تؤكِّد هذا «وداد السكاكيني»، كلَّ شيء في وجود «عمر فاخوري» وكفاحه. وبيروت «عمر»، لم تكن في إنغلاقها على ذاتها، ولا في تقوقعها ضمن أزقَّتها وحاراتها، ولا حصر أبنائها وأفكارهم بما في بيوتهم من هموم وما بين عائلاتهم من قضايا ولا بينهم وبين جيرانهم من حزازات. بيروت «عمر»، وكما تظهر في كتاباته جميعها، هي تلك السَّاعية أبداً إلى النَّهضة والتحرير وسعة الأفق، وهي المتربعة سعيدة على عرش لبنان، عاصمة متألِّقة له، وفاقاً لما رآه «عمر فاخوري» في لبنان، كما يذكر في مطلع كتابه «الحقيقة اللبنانيَّة»، في طبعته الأولى سنة 1945، «ما كانَ صِغَرُ جغرافيَّتهِ وتاريخه ليعوقه أو يكفًّه أو يمنعه عن أن يعطي العالم، في عصر من عصور تمدينه، أداة التخاطب المثلى، وأساليب العبادة الفضلى، وطرائق للفكر والعمل قويمة».

يمكن القول، تالياً، إن «عمر فاخوري» انطلق، منذ مطلع صباه ونضج فتوته، من القضية العربيَّة، مبدأً ومنارة وهدفاً؛ فجال في أرجائها، وعاين ساحاتها، ومشى في ركاب أفذاذها. تجلَّى الهمُّ الحضاريُّ الأساس، عند «عمر فاخوري» بالسعي إلى تحقيق النَّهضة القوميَّة والوطنيَّة؛ أمَّا سلاحه، في هذا السعي، وكما يسفر عنه في مطلع كتابه «الحقيقة اللبنانيَّة»، بالدعوة المتواصلة إلى الحريَّة الواعية، والإصرار الدائم على أن لبنان، «ملقى السبل المتفرقة، ومعترك الأمم المتنافسة، ومزدحم الثقافات المتقاطعة»؛ والإيمان الأكيد بأنَّ «ما من قوة في الأرض تستطيع أن تغلق ساحله الغربي، هذا الباب المفتوح على مصراعيه للأبيض المتوسط، من مدنيات وشعوب، يعطيها ويأخذ عنها، ثم يُقذف به واحة غريقة في الصحراء. كذلك ما من قوة في الأرض تستطيع أن تسلخه عن هذا الشرق السامي الذي وصلته به، منذ كان التاريخ بل قبل أن يكون، وشائج دم ولغة، وتقاليد وأساطير، وعبادات وثقافات، ثم يُقذف به في الأوقيانوس». أمَّا ضمانة هذه الرؤية، وكما يبيّنها «عمر فاخوري» في «الحقيقة اللبنانية»، فتتحدَّد بقوله «ليس يخطر لأحدٍ ببال، هنا أو هنالك، أن ينكر الصلات الوثيقة التي تربط هذا البلد اللبناني بسائر الأقطار العربيَّة: صلات مادية وروحية، صلاة في الماضي وفي الحاضر»؛ وتتأطر إذ يرى أساسيَّة «توثيق روابط الإخاء بين أبنائه وطوائفه جميعاً، وإنشاء الصلات الخارجية التي تدعم الاستقلال وتضمن مصالح الشعب».

وإلى اللِّقاء في الحلقة الخامسة.

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي