في 28 تشرين الأول/ (أكتوبر) 2019، وفي مدينة الرباط حيث عُقدت الندوة الفكريّة للتحضير لمؤتمر فكر 17 «نحو فكر عربي جديد» الخاصّ بـ «مؤسّسة الفكر العربيّ» لعكس الرؤية المغاربيّة لتجديد الفكر العربيّ، وما صاحبَ ذلك من نقاشٍ حول الوطن العربيّ، خرجتُ بفكرة مقالة بعنوان «فكر الوحدة أم وحدة الفكر».
إنّ الوطن العربيّ، وما يجمعه من قواسم مُشترَكة أكبر بكثير من جوانب الاختلاف؛ وعلى الرّغم من ذلك يعيش حالة من الانقسام غير مسبوقة عبر تاريخه كلّه، وأسباب ذلك متعدّدة وشائكة. فالرهانات السياسيّة والمُغامرات الخاسرة لبعض سياسيّيه وصنّاع القرار فيه، كانت سبباً، وأوضح مثال على ذلك احتلال الكويت في العام 1990، وما نتجَ عنه من شقٍّ للصفّ العربيّ، وإثارةٍ للنعرات المحليّة والانشقاق بين شعوب الأقطار المُختلفة.
فقد أَخفقت الأنظمة في خلْق كيانٍ عربي كبير به سوق عربيّة مُشترَكة وعملة موحَّدة على غرار الاتّحاد الأوروبي، الذي نجح في لمّ شمل أوروبا تحت مظلّةٍ واحدة، على الرّغم ممّا كان بين دولها من صراعٍ دمويّ لم تشهد الإنسانيّة مثله عبر حربَين عالَميّتَين سالفتَين، مجموع ضحاياهما فاق الخمسين مليون إنسان، فضلاً عن التخريب النفسي والتدمير الذي أصاب كلّ شيء.
الدَّرس الأوروبيّ
بعد الحرب العالَميّة الثانية، خرجت الدول الأوروبيّة من الحرب مُنهَكة تعيش تمزّقات وفوارق اجتماعيّة، واقتصاداً مدمَّراً، فقرَّرت تشكيل تعاونٍ عبر مؤسّسات الدولة التقنيّة والاقتصاديّة لتحقيق السلام، الذي يُعيد إليها استقرارها الطبيعي، الأمر الذي أدّى إلى خروج اقتراح وزير الخارجيّة الفرنسي روبرت شومان - Robert Schuman بتشكيل مجموعة أوروبيّة للحديد والفحم، كوسيلة لمنْع المزيد من الحرب بين فرنسا وألمانيا، متّخذاً شعاراً «make war not only unthinkable but materially impossible»، أي «لن نجعل من الحرب أمراً غير وارِد فحسب، بل غير منطقي ماديّاً أيضاً» لتُوافِق عليه ستّ دولٍ أوروبيّة هي: ألمانيا، إيطاليا، فرنسا، هولندا، بلجيكا، لوكسمبورغ، بهدف تنظيم إنتاجها الصناعي تحت سلطةٍ مركزيّة. وقد تبلور هذا الاقتراح بتوقيع مُعاهدة المجموعة الأوروبيّة للفحم والصلب (مُعاهدة باريس) في 18 نيسان (أبريل) 1951، وأهمّ مبادئها:
1- رفْع العقبات والحدود أمام تجارة الحديد والفحم بين الدول الموقّعة.
2- تطبيق سياسة موحّدة مع الدول التي بقيت خارج المجموعة.
3 - حريّة دوران القوّة العاملة بين الدول الموقّعة.
وخلال نصف قرن من الزمان فقط، تكوَّن الاتّحاد الأوروبي وأصبح تحت مظّلته مؤسّساتٌ عدّة ضخمة، (برلمان ومفوضيّة، وبنك مركزي ومَحكَمة للعدل وأخرى للحسابات) وصار المُواطِن الأوروبي أو حتّى مَن يحمل تأشيرة الاتّحاد حرّاً في التنقّل بين دُول أوروبا كلّها.
فماذا عنّا نحن؟ ونحن يجمعنا لغة واحدة وتاريخ واحد ومصير مُشترَك، كما يقول الساسة والمؤرّخون. وعلى الرّغم من ذلك أخفقنا في خلق حتّى سوق عربيّة مُشترَكَة، وظلَّت الجامعة العربيّة التي أُنشئت في العام 1945 مجرّد كيان رمزي لاجتماع العرب، لا يصدر عنه قرارات مفعّلة في اتّجاه الوحدة أو حتّى التكامُل الاقتصادي!
دلالة لا يُمكن تغافلها
لا نقول ذلك بغرض التقليل من دَور الجامعة في لمّ شمل العرب، ولكنْ لتوضيح أنّها لم تلبّي طموحنا في نشْر فكر الوحدة الذي نأمله. فبعيداً عن السياسة، كان من المُمكن للجامعة أن تجمعنا في إطارٍ ثقافي واحد، وأن تُنشئ سوقاً عربيّة مُشترَكة تكون أداةً للتواصل والتكامُل بين شتّى أقطار الوطن العربي، فما يجمعنا أكثر بكثير، وأهمّ بكثير ممّا يُفرِّقنا ويُباعِد بيننا.
وكما أشرنا سابقاً، هناك أسباب متعدّدة وراء ذلك الإخفاق، لكن ما يهمّنا هنا هو التركيز على سببٍ جوهري من وجهة نظرنا، وهو غياب فكر الوحدة في الفكر العربي في حاضرنا؛ الأمر الذي حدا بكاتبٍ ومفكّرٍ وعالِم اجتماعٍ كبير مثل الدكتور سعد الدّين إبراهيم إلى تأليف كِتاب يحمل عنوان: «خسوف القوميّة العربيّة»، ولا شكّ أنّ لهذا دلالة، ليس من الحكمة التغافُل عنها، وهي أنّ فكر الوحدة غائب تماماً، ليس على مستوى النّخب العربيّة فحسب، ولكن على مستوى الشعوب أيضاً. فعلى الرّغم ممّا يُقال عن أنّ الوحدة مَطلب شعبي عربي، فإنّ الانشغال بموضوع الوحدة مثلاً، ظلَّ حكراً على المثقّفين والسياسيّين في الوطن العربي ولم تُشارِك فيه القطاعات الكبرى لشعوب الأمّة في صياغة الفكر الوحدوي بدرجة ملحوظة. ولا شكّ أنّ النخب التي تصدَّت لهذه المسألة كانت، ولا تزال، ذات وزنٍ كبير في صياغة مصائر أقطارها الذي سيستمرّ إلى وقتٍ طويل في المستقبل. وليس هذا في حدّ ذاته خروجاً عن القاعدة في عمليّات التوحيد السياسي في أجزاء العالَم الأخرى، كما أشرنا إلى الاتّحاد الأوروبي، ولكنْ الذي لم تنجح فيه النّخب العربيّة إلى الآن، هو إشاعة فكر الوحدة، من مستوى الأفراد إلى مستوى الجماعات أو الشعوب، وربّما كان هذا القصور راجِعاً إلى عدم فهْم النُّخب لواقع شعوبها ومشكلات هذه الشعوب وهمومها، أو عدم القدرة على إيجاد وسائل المُخاطَبة والاتّصال والربط بين فكر الوحدة والهموم الحياتيّة للناس.
ولكنْ أيّاً ما كانت الأسباب، فالنتيجة ظلَّت واحدة: فكرٌ وحدويّ ظلّ موقوفاً على النّخبة، ومشروعات وحدويّة يحتكر الخاصّة الحديث عنها أو التحرُّك نحو إقامتها أو فضّها من دون إشراك الشعوب في ذلك.
لذلك ظلّ حلم الوحدة العربيّة مجرّد أفكار يتغنّى بها البعض كلّ فترة من الزمان، ولم يُصبح واقِعاً، لأنّنا ركَّزنا على الشقّ السياسي في الأمر فقط، ولم ننجح في جعْل فكر الوحدة ثقافة تسري في جسد الأمّة من المحيط إلى الخليج.
وإذا أردنا النجاح في المستقبل، فعلينا أن نعمل على ذلك من الآن، وفق بَرامِج عِلميّة مدروسة يُشارِك في وضعها عُلماء السياسة والاجتماع والنّفس وخُبراء التعليم، ويشتغل عليها الإعلام والشخصيّات العامّة، ليكون فكر الوحدة هو الغالب في المُجتمعات العربيّة، ولتعود الأمّة، كما كانت عبر قرون طويلة، جسداً واحداً إذا اشتكى منه عضو، تداعى له سائر الأعضاء.
في الختام، يلزمنا أن نعي جميعاً أنّنا لا نحتاج إلى وحدة الفكر، فليس في ذلك خيرٌ. على العكس، ففي تعدُّد الأفكار غنى أو ثراء نحتاجه، والأُمم متعدّدة الأفكار تعيش وتبقى وتَنجح.
باختصار نحن نحتاج إلى فكر الوحدة وليس إلى وحدة الفكر.
د. تركي القرشي
باحث وكاتب من السعوديّة
بالاتفاق مع («أفق» ومؤسسة الفكر العربي)