الفن غذاء الروح، والروح منبثقة من صميم الخلود. المادة قوت الجسم، والجسم ثوب لا يلبث ان يمزقه الأجل، لتندفع منه النفس حرة نقية تنشد الكمال في آفاق اللانهاية.
الفن كوكب نير، يخلع على الوجود أضواء المعرفة، ويكسو أبناء الحياة حلل اللطافة والعرفان، ويرشدهم إلى سبل الخير والحق والجمال. والمادة نارٌ تتأجج في الصدور، وتستعر في الأدمغة، وتمتد إلى الأمم والشعوب، فتثير بينها المطامع والاحقاد، والمطامح والاحقاد نواة المواقع والفواجع.
الفن مقياس الرقي، ونبراس التقدم، ومهماز النبوغ، وشمس الإبداع، تحت سفن انواره تنمو الحضارات، وبتأثير اشعته المحببة تزدهر الكرامات. والمادة مصباح اطفأته رياح الانانية، وحطمته عواصف الاستئثار على صخور الاغراض الضيقة.
الفن زهوة العاطفة، وبسمة الضمير، ودليل المجتمع إلى محجة العزة الوطنية، والطمأنينة الفكرية والسلام الروحي، والمادة اعراض قد تحجر الفؤاد، وقد تسلب الرشاد، فتسيء إلى اجمل ما يعتز به الإنسان.
للفن طريق، وللمادة طريق آخر، وهذان الطريقان يتباعدان في دنيا الجهالة، وفي كل بيئة فُطر ابناؤها على حب المال، وعلى الإعراض عن كنوز العلم والثقافة.
توخيت دوماً غاية ادبية بحتة، وآليت على نفسي، ان اساهم في القيام بكل ما يفرضه الواجب الوطني والإنساني معاً، فاندفعت في جادة الأدب، وشعاري الجد والجرأة والصراحة، ونصب عيني الهدف الأمثل الذي عاهدت الله والوطن والناس، على ان اسعى إليه سعياً حثيثاً، لا يشوبه التواني ولا يدانيه الفتور والاهمال..
ثابرت على ما بدأت به يافعاً من الدأب المستمر والاخلاص القويم غير ملتفت إلى ما عانيته من ضيق ومكابدة كانا كافيين ان يدكا صرح آمالي لولا لطف الله وقوة العقيدة وصدق العزيمة وعظم الثقة بقدسية رسالة الفكر والأدب..
لو لم تكن للفنون تلك السعادة الخفية، التي يشعر بها صاحبها في عمق اعماق نفسه، لما صبر على عمل لا يجني من ورائه سوى ارهاق النفس، واجهاد الفكر، وقضاء الليالي الطوال، بين الأوراق والاقلام يفعل كل ذلك، ليبدد ظلمات الجهالة، وليفتح العيون والقلوب، على آفاقٍ تتجلى فيها حقائق العلم ودقائق المعرفة، وليهيب أبناء جنسه إلى مواطن الرفعة ومجالي الرغد الوضاح والمجد البسام.
غير ان هذه الجهود، قلما تصادف بيننا من يقدرها حق قدرها، أو من يستثمرها وينشط صاحبها، على عكس ما نراه في الغرب من الاهتمام بشؤون الادباء والمفكرين، والأخذ بايديهم إلى مراقي الكمال. ومثلما يزيد الالماس بالصقل صفاءً واشراقاً وجمالاً، هكذا تزداد الموهبة بالتشجيع والتأييد قوةً ونمواً يجعلانها تبتدع وتخترع وتأتي بمدهشات الأمور.
وكل من رافق حياة الادباء وارباب الفن، يعلم علم اليقين، ان المشتغلين بالفن والأدب في بلادنا، هم أكثر النّاس دأباً، واوفرهم تعباً، واقلهم كسباً. ومرد ذلك، إلى انهم يعيشون بين قوم تغلبت عليهم المادة، فصرفتهم عن كل ما من شأنه، ان يصقل الأفكار أو يهذب الحس والطباع.
ومن المؤسف ان معظم حكوماتنا، لا تولى الأدب والفنون ما تستحقه من عناية ورعاية. وكما يعيش اليتيم في معزل عن حنان الأم وعطف الأب وبره، يعيش الأديب أو الفنان عندنا بعيداً عن معاضدة حكومته ومساعدتها، عاملاً في وحدته بصمت واباء ووفاء، قانعاً من كده وجده بخدمة وطنه وراحة وجدانه.
ولكن حكوماتنا العلية لا تعرض عن عون رجال الريشة والقلم كلهم، بل تهتم أشدّ الاهتمام بمعونة من يوالونها ويشايعونها من أرباب الصحافة. وهذا حقٌ لا ننكره عليها، لأنه من المعقول ان يُثاب المحسن على احسانه، وإنما نقول، ان للادباء والمبدعين نصيباً كبيراً في خدمة الوطن، وفي ايقاظ الهمم، وفي انارة الأذهان، فرب قصيدة هزّت النفوس هزاً وافعمتها حماسة وفخراً وعزاً. ورب مقالة ادبية اشادت بامجاد الأمة اشادة خشعت لها القلوب وانحت امامها الرؤوس. ورب لوحة فنية أو نبذة تاريخية مزقت حجب الماضي، وجلت غوامض الحقب، واثبتت من مآثر الآباء ومفاخر الأجداد، ما ازال عن الأبناء والحفدة، اصفاد الذل وسلاسل الاستعباد.
الفن والاداب خير وساطة لربط القلوب وتوثيق المبادئ وتفاهم الشعوب ونشر الثقافة في أربعة أنحاء المعمور. وقد ادركت هيئة الأمم المتحدة، ما للآداب والفنون من مقام عالٍ واثر فعّال، في توجيه النّاس نحو هدف الوئام والسلام، فقررت بالإجماع، في القسم الثاني من دورتها الأولى المنعقدة في نيويورك، ابتداء من 23 تشرين الأوّل إلى 15 كانون الأوّل عام 1946 «انها تعتبر ان ترجمة الآداب الثقافية العالمية إلى لغات أعضاء الأمم المتحدة، من شأنه ان يُساعد على التفاهم وانتشار السلام بين الأمم، إذ يخلق ثقافة مشتركة لجميع الشعوب» وقد ورد في موضع آخر من ذلك القرار المهم ما نصه: «ان ترجمة الآداب الثقافية العالمية، هي مشروع ذو طابع عالمي، له أهمية كبرى من ناحية التعاون والتفاهم الدولي حول المسائل الثقافية».
وهذا وأيم الحق، برهان قاطع على مكانة الآداب وأنشطة الفكر عموماً، وعظيم تأثيرها في خلق عالم جديد يسوده التعاون، واعتراف صريح بان ما تفسده السياسة يصلحه الأدب. ولا غرو، فان الأدب ابن الروح الخالدة، وربيب العاطفة الإنسانية المرهفة. اما المادة، فإنها بغية الجسم الفاني، وصنيعة العناصر الأرضية المنحلة، وشتان بين ما تصوغه الروح المنبثقة من نفس الله، وما تنتجه المادة المنبعثة من تراب الأرض.
بفضل الفنون والآداب يرتقي الإنسان مع اخيه الإنسان فيلتقي به. يرتقي بشاهقاتها ليعانق السماء بل ليزامل الله الذي خلقه على صورته. فالمجد لها على الأرض لتتقدس في السماء.
د. جهاد نعمان