بيروت - لبنان

اخر الأخبار

24 أيلول 2020 12:00ص كورونا.. تأمُّلات في العِلم والحياة والدّين

حجم الخط
مُدنٌ وبلدانٌ ودولٌ وقارّاتٌ أضحتْ مُحاصَرة برّاً وبحراً وجوّاً، ليسَ بسبب حروبٍ عسكريّة كونيّة تُشَنّ عليها من قِبَلِ قوّاتٍ فضائيّة بأسلحة نوويّة أو أسلحة تدمير شامل، بل بسبب كائنٍ صغير للغاية، هشّ في بنيته وتكوينه، لكنّه بصَمْتِه أقوى وأفظع وأشدّ تأثيراً من أيّ سلاحٍ آخر اخترعه الإنسان.

انشغلَ الناس جميعاً به، بَدُوا سكارى، حتّى باتت يوميّاتهم ولحظاتهم مقرونة به. إنّه زمنُ فيروس «الكورونا» بامتياز. زمنُ العدوّ الصّامت أو القاتل الخفيّ. زمنٌ باتَ زعماءُ العالَم الأقوياء يتحدّثون فيه عن سيناريو «الحرب العالَميّة الثالثة» في وصف الآليّات والإجراءات التي يجب أن تُعتمد من قِبَلِ دولهم ومؤسّسات بلدانهم لـ «مُحارَبة» الفيروس الفتّاك ودرء مَخاطره عليهم.

ظَهَرَ هذا الفيروس التاجي (كوفيد–19) - أوّل ما ظهر - في جمهوريّة الصين بدايات كانون الأوّل (ديسمبر) من العام الماضي، ويُقال إنّ مُحاولاتٍ جرت من طرف الحكومة الصينيّة للتستّر عليه في البداية، ولكنّه امتدّ وانتشرَ خلال زمنٍ قياسيّ في آفاق الأرض كلّها، وإلى ما يقرب من مائتَي بلدٍ في العالَم، فَتَكَ خلالها، ولا يزال يفتك، بعشرات الآلاف، وتفشّى في أجساد مئات الآلاف، أخافَ الدول إلى درجة الرهاب المصيري إذا صحّ التعبير، حتّى أنّ كثيرين باتوا يتحدّثون عن يوم القيامة...

نعم، الدّولُ اليوم، كلّ دول العالَم، تعيش حالةَ طوارئ صحيّة وطبيّة وسياسيّة واقتصاديّة مُتمادية.. والعُلماء في مُختبراتهم يتسابقون على اكتشافَ لقاحٍ جديد له.

فماذا فعلَ البشر؟ ماذا قدّموا وأنتجوا؟ وماذا يحصدون؟.. وإلى أين المَسار والمصير؟ ولماذا لم يتمكّن العقل البشري الذي ألّهته فلسفاتُ الغرب التنويري الحديث، وبايعته مرجعاً أوحداً للحياة والإنسان من درء مَخاطِرِ كائناتٍ شديدة الخطورة كهذه على الصحّة والسلامة البشريّة؟

في ما يلي تأمّلات فكريّة تُحاول الإضاءة على ما أثاره، ولا يزال يثيره، انتشار هذا الوباء الخطير في مُختلف مَواقِع الحياة الإنسانيّة وساحاتها، من أسئلة وإشكاليّات وهواجس تتعلّق بوجود الإنسان في علاقته بالطبيعة والعِلم والدّين والعقل.

1. الطبيعة وقضيّة التوازُن.. ماذا فعلَ الإنسان؟

من المعروف أنَّ مختلف الكائنات الحيّة في الطبيعة تتحرّك بدقّة وصرامة، أي بناءً على قوانين طبيعيّة ذاتيّة وموضوعيّة خاصّة بها أو بمحيطها، زوّدها بها الخالِق العظيم في عمليّة نَظْمٍ دقيق للغاية؛ بحيث تتأثّر تلك الكائنات بالقوانين الثّابتة الرّاسخة، وتَخضع لها، ولا تحيدُ عنها قَيد أنملة. وحتّى لو لمْ يتمكّن الإنسان من معرفة هذا القانون أو ذاك الذي يسيطر ويدفع الكائن للتحرُّك الدقيق والمتصرّم، وفقاً لهذا الاتّجاه أو ذاك، فهذا لا يعني أنّ القانون معدومٌ أو أنّ الناموس ليس موجوداً، بل يعني أنّ الإنسانَ لم يتمكّن من اكتشاف أو اختراع الوسيلة المفضية إلى ذلك القانون أو الناموس المُسيطِر.

والإنسانُ - الكائنُ الأرقى في سُلّم الموجودات كلّها - خاضعٌ هو بدوره لتلك القوانين والأنظمة، ولكنْ باعتباره مالِكاً لنعمة العقل والتفكير، وأنّه حرّ مختار، فقد تمكّن من السّيطرة على بعض تلك النواميس وامتلك مفاتيحها ليندفعَ ويتصرّفَ، في حياته ومُحيطه الطبيعي، بما يُعاكِس (ربّما في كثير من الأحيان) حركة القوانين الطبيعيّة المُحيطة به، حتّى أنّه يُخالِف ويتصرّف بعكس قانونه الخاصّ به نفسه.

هذه المُخالَفة أو السلوك المُضادّ لذاتيّة الطبيعة والخلل بالتوازنات القائمة فيها، دفع الطبيعة، المزوَّدة ذاتيّاً بقوى مناعيّة دفاعيّة، للدفاع عن ذاتها وعن قوانينها المُهيمِنة نفسها. وفي كلّ مرة يتعرّض فيها البشر لجائحات وبائيّة، أو غيرها ممّا قد لا يجد له الإنسان أيّ تفسير، يُمكن النّظر إليها من هذه الزاوية، الفكريّة المعرفيّة، على قاعدة أنّها تَستهدف الإنسان ذاته، كموجودٍ طبيعي؛ أي من حيث هو موجود مثل باقي الموجودات الطبيعيّة في الحياة، يُمكن أن يؤثِّر فيه - وفيها - مجرّد فيروس دقيق وضعيف البنية التكوينيّة. وهذا انتصار كبير تُحقِّقه الطبيعة في مُواجَهة مخلوقٍ مُدجَّج بالعقل الصانِع للعِلم والمَعرفة العِلميّة وللحضارة البشريّة الهائلة. 

2. العِلم والعقليّة النفعيّة الرأسماليّة:

تُعتبرُ المشكلةُ الماليّة، من أهمّ المُشكلات التي اعترضتْ وتعترض مسألة الوصول إلى علاجاتٍ شافية لكثيرٍ من الأمراض التي سبَّبتها جراثيم أو فيروسات مُختلفة، حيث إنّ عدم وجود المال أو قلّة توافُره واستنكاف الدول عن الدعم الواسع لمَراكِز البحث العِلمي ذات الصلة بالدواء واللّقاحات العِلاجيّة، كان يُعرِّض الأبحاث العِلميّة العامِلة على هذا الصعيد إلى التباطؤ أو ربّما التوقُّف الكامل، ولاسيّما أنّ مثل هذه البحوث بطيئة بطبعها، وعملها تراكُمي، أي أنّها تحتاج إلى زمنٍ طويل للإنجاز والتحقّق، الأمر الذي كان ينعكس امتناعاً من المُستثمِرين ورجال الأعمال ونُخب الاقتصاد الحرّ عن إيلاء هذا القطاع أهميته الحقيقيّة في عدم دعمه ماليّاً أو ضعف الاستثمار فيه. وبالأساس المستثمرون في هذا المجال قلّة، وهُم يبتغون الربح السريع خلال زمنٍ قصير، وهذا غير مُمكن في المدى القصير والمتوسّط، بل في الأمدية الطويلة نسبيّاً.

ويذكر لنا بعض الباحثين في مَعاهد بحثيّة طبيّة عالَميّة أنّ كثيراً من البحوث الرائدة في مَجالهم، توقّفت لقلّة الدّعم أو الاستثمار. وهذه من كوارث العقل النفعي البراغماتي المُهيمِن في الغرب الذي يَستهدف تحقيق الربح بصرف النّظر عن الوسيلة وعن الغاية والهدف. مع أنّ القضيّة هنا - في البحوث الطبيّة - تنحو منحىً أخلاقيّاً يتّصل بضرورة المُحافَظة على حياة الإنسان وإبقائه سليماً مُعافى كي يتمكّن من العمل والإنتاج والبناء المُثمِر، ومُواجَهة ما يُعرِّض حياته هذه للتهديد والخطر، والمرض من أهمّ تحدّيات الإنسان والمصير البشريّ ككلّ. هذا ما كان يجب أن يدفع الحكومات إلى ضرورة توفير الأموال اللّازمة لمَسائل البحوث العِلميّة، الطبيّة منها بالذات، وعدم توقُّع نتائج مباشرة منها إلّا خلال عقدٍ أو عقدَين أو حتّى عقود عدّة، بخاصّة إذا ما كانت الدراسات بنيويّة وعميقة، وتتعامل مع كائنات خطيرة هي بذاتها متحوّلة ومُتغيّرة وتسلك سلوكيّاتٍ فجائيّة أثناء القيام بأعمال البحث العِلمي كالفيروسات مثلاً.

ويبدو أنّ التنبُّه لهذا الجانب الخطير لم يحدثْ إلّا بعد وقوع البشريّة تحت الضغط الصحّي المباشر، وهذا ما لاحظناه خلال هذه الأيّام التي تتعرّض فيها البشريّة إلى ما يُشبه التهديد الوجودي الكبير نتيجة تفشّي هذا الوباء (الكورونا) الذي يُمكن عدّه من أخطر ما واجَهه الإنسان في تاريخه.

3. العقلُ والدّينُ والعِلم:

أكرمَ اللهُ تعالى الإنسانَ بالعقل والهدى، على ما جاء في القرآن الكريم: {وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ..} (الإسراء: 70)، وجعلَ هذا الكائن - من خلال ذلك التكريم - في أعلى المَراتِب الوجوديّة الراقية والرفيعة؛ والعقلُ البشري (عقل التجربة) - الذي شكّلته الفلسفة وعلوم الإنسان والمُجتمع الحديثة وخبرات الحياة وتجاربها - قدّمَ الكثير من الاكتشافات عبرَ مسيرة الإنسان الطويلة على هذه الأرض، كما غيَّر في كثيرٍ من المَسارات والمُعادلات الحياتيّة، ووجَّه ضرباتٍ موجِعة وربّما قاصِمة لكثيرٍ من الاعتقادات واليقينيّات الفكريّة والأيديولوجيّة، ولكنّه إلى الآن ما زال عاجزاً وغاضباً من عدم قدرته على اختراق يقينيّات حصون إنساننا العربي ومَعاقله، الذي ما زال قسمٌ غير قليل منه، مُعتقداً أنّ «حبّة البركة» و«الكُركُم» و«اليانسون» تقي (وربّما تُعالِج!!) من فيروس «الكورونا»!!

تغيير القناعات والاعتقادات أمرٌ صعب مُستصعب، فالناس تَألف العادات والتقاليد، وتتمسّك بها، وترفض أيّ نفْخٍ لهواءٍ نظيف جديد في بيئتها.

طبعاً ينبغي الّا يُفهم من كلامي أنّ العِلم والدّين مُتناقضان تناقضاً ذاتيّاً، بل يجب التفريق بين الدّين ومُعتقدات الناس، كما يجبُ معرفة أنّ للدّين مجاله واختصاصه وحقيقته الخاصّة، وأنّ للعِلم مَجاله وحقيقته الخاصّة المُرتبطة به، معنىً ومبنىً.

الدينُ علاقةٌ روحيّة وحالةُ رقيٍّ وتكاملٍ نفسيّ قيَميّ بين الإنسان وربّه؛ وأمّا العلوم الطبيعيّة، فهي علومٌ صنعها الإنسان بعقله، وهي خادمة للبشر، حيث تمكَّن الإنسان من تحقيق اكتشافاتٍ هائلة من خلال تلك النُّظم والأسباب والقوانين المُودَعة في هذه الحياة والوجود.

إنّ العِلمَ وسيلةٌ للوصول إلى غاية، أي هو ليسَ غاية بذاته، وليس هدفاً نهائيّاً لذاته. بل هو أداة تتقوّم غايتها بغيرها، قيمةً وهدفاً. والعِلم له مَناهِج عدّة، منها المنهج التجريبي الذي يتقوَّم بالحسّ والرؤية العيانيّة المعياريّة القياسيّة. 

أمّا الدّين فهو رؤية روحيّة ذات غاية ومعنى تربط الإنسان بعالَمٍ آخر، يعجز العِلم عن تصوّره وإثباته، لكنّه في الوقت عينه غير قادر على نَفيه وإبعاده عن ساحة الذهن والتصوّر الإنساني. نعم هُما مجالان مُختلفان (لكلّ خصوصيّته وحقله) من حيث السياق، لكنّهما على تكامل من حيث النتيجة النهائيّة. وهُما بناءً عليه مُرتبطان ارتباطاً مصيريّاً، وهُما يُقرِّران مصير الإنسان وكَماله، فالعِلم هو بمثابة ضياء لكشف الواقع ولمعرفة الحقيقة. والحقيقة هي فِعل الله وأمره (كونه علّة الخلق والوجود والحياة)، والعلمُ - كما يقول أحد الباحثين - طريقٌ طبيعي لرؤية آثار الخالِق في حركةِ الوجود، كما أنّ معرفةَ الإنسانِ للخالق تزدادُ بازدياد العِلم. والعِلمُ أيضاً بمعناه العامّ (أي بما يشملُ الفلسفة) أداةٌ لكشْف حقيقة الكون وحقيقة الإنسان، وارتباط الإنسان بالكون وبالموجودات، ودَور الإنسان في العالَم وفي الحياة وفي الكون.

نبيل علي صالح 

كاتب وباحث من سوريا

 (مؤسسة الفكر العربي)