بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 حزيران 2018 12:01ص لارا ملاّك في «انثى المعنى» عالم فيه من النور والرؤيا كما في الحلم

حجم الخط
في هذا الديوان، تروي الشاعرة أحوال عشقها في صورٍ تتلاحق كأنّها ترجيع أنفاسها. تفصح اللغة، في أوصاف الحال، عن مراتب منازله وتمسك الحواس أقلامها، وتجمع ألوانها وكأنّ كلّ كتابةٍ بأقلامها تسطر. وفي مسالك البحث عن المعنى المتحقّق في ترجيعاتٍ رسمَتْ بريشة شاعرةٍ صورَ أحوالها في محضر الحبيب، لا يمكن معرفة أيّهما القطب الّذي يدور حوله العشق، مرّةً نظنّه العاشق ومرّاتٍ نعرف أنّه المعشوق.
الصور الّتي تتداعى وتتلاحق في حركةٍ لا تستقرّ على مدار، حركةٌ جوهريّةٌ تشبه السَرَيان، تنبت في مطاوي النصّ الشعريّ حتّى تتوقّف عند معنى دون أن ترتدّ إلى نقيضه أو تسعى إلى تشبيهه في لعبة جناسٍ وطباق، ووصلٍ وفصل، وتشبيه ومجاز، وعبارة وإشارة، وموسيقى داخليّة أقرب إلى طرب السّكون، يغلب فيها الصّمت على الصّوت والسّكون على الحركة، والهمس والبوح على الإفصاح الصّريح.
الصّور الشعريّة في هذا الديوان تفيض بالدّهشة ولا تصنع الشاعرة الدهشة من الغرابة والغربة، في علاقة الألفاظ بالمعاني وتعدّد الدلالات واصطناع مخالفة المألوف في لعبة اللغة في توليد الصور، بقدر ما تنساب في وصف الحال، وكأنّما تبدع بهذا الوصف الجميل ما يستحقّ من ألوان المقال...
الحبّ الّذي تدور عليه قصائد هذا الديوان ذو منحًى وجوديّ إفصاحٌ عن تجربةٍ بعيدةٍ عن المحاكاة، سواء كانت طبيعيّة، عقليّة، أو من صناعة الخيال..
تقول:
التخيّل جمال الحقيقة
سقطت التفّاحة نفسها
في جاذبيّتين
غرقت في قاع المرأة الأولى
وطافت على وجه الفيزياء..
ربّما كان هيجل على حقّ حين اعتبر الفنّ، والشعر على وجه الخصوص، تأوّج القول في التعبير عن الرّوح. إنّ فينومينولوجيا الروح، ليست في حدس الشاعر تلك اللعبة المخادعة بين العقل والخيال، بين الوجود في الفيزياء الكونيّة والوجود في معارج العشق الروحانيّة.
لا تخلو قصائد الديوان من السّؤال الفلسفيّ، في إشكاليّته الوجوديّة. كما لا يخلو في معارج الخيال الّذي يصنع الدهشة والفنطاسيا من الاعتماد على الحواس، بما هي جنود العقل الساعية إلى جمع هيولى الاستيلاء، وإلباسها صور الكلام.
يلعب السمع والنظر والشمّ واللمس والذوق الدور الأغلب في اصطياد الصّور.
«أنتظر الموسيقى
تأتي أنت»
وبعدها في قصيدةٍ أخرى
«أنا تعبّدٌ أصمّ
لا يسمع إلّا صلاتك»
إلى أن تقول:
«الهجرة مفقودة
والصوت هناك
أتساءل مذ ولدتُ
كيف عساي أسمع
لي عينٌ
فكنتَ أذني
ليس الشعر في هذا الديوان اكتسابًا معرفيًّا بقدر ما هو عيشٌ وتماسٌّ بين الحاسّ على تعدّد حواسه والعالم المحسوس من حوله.
ثمّ تأتي الصرخة صاخبةً في خفايا الروح:
«يأكل جسدي حواسه
يفتشها/ تلميذة التراب أنا
أشتمّ الغيث كلّما استحممت...
ولا تلبث طويلًا حتّى تطرح أسئلتها الوجوديّة والمعرفيّة، أسئلة المقولات الأولى:
«كيف أوقّع شعوري
كيف تثبت المادّة
إخلاصها للعقل؟
هل وصل البحّارة القدامى
إلى أقاصي الإنسان؟»
في الأثر الصوفيّ الإشراقيّ صورٌ لامعة، مثل:
«أنهكني السعي 
خلف ظلّي..
يرسمني النور كما يشاء
أواجه به أشباح الظلمة
يوقّع الضوء وجودي..
وأيّ انعكاسٍ أنت
في غياب النور
وآويتُ إلى ضوئي
لأرى نقيضي..»
يعمر الديوان بصورٍ مستفادة من ألفاظٍ دينيّةٍ، تقع الشاعرة في المنحى الوجوديّ الإيمانيّ «الله، الربّ، الفردوس، النار، النور، الصلب، الموت، الخبز، الخمر، البخور، الخطيّة، الفضيلة، التراب، اللذّة، الروح، الصلاة...» كما في هذا النصّ الرائع
«أكتب
أنفض الصلاة
ينكفئ الغبار
تتجلّى
صورتك في خبايا الروح/
تفيض منذ زمن/
أركع أضيء شمعةً..
يرتّل لنقص المدفون
ينذرني
لنكتمل معًا/
يتصبّب النبيذ دمًا
أشرب
لا يرويني صلبي...»
لا أدري أيّ حلمٍ قاد الشاعرة لاختيار رموز صفات التحسين، ومنها الهرّة والنملة والتوت والتين، وهي مستقاةٌ من معنى الهيولى الأولى. أوّل ما لبسته الهواء، والرغبة والسعي، والبحر والسفين، والتراب والنار. لغةٌ يبدع منها شعرٌ على الحقيقة، وعالمٌ فيه من النور والرؤيا كما في الحلم، ومن الجمال والشعور كما في العالم.
د. طراد حماد
«من مقدمة الديوان»