بيروت - لبنان

اخر الأخبار

26 تشرين الثاني 2020 12:00ص مُحاولتانِ لِلتَّجديدِ الأدبيِّ مِن داخلِ التُّراثِ العربيِّ في نَهْضَةِ القرنِ التَّاسِعِ عَشَر (الحلقة الأولى)

الشَّيخ أحمَد البَرْبِير

حجم الخط
لا بُدَّ من التمييز بين ما هو «نهضة» وما هو «طفرة»؛ فالنَّهضة، وجودُ تجديدٍ وتأسيسٍ يستند إلى أصالةٍ ما؛ في حين إنَّ الطَّفرةَ، لا تعدو كونها نُتوءاً غير عميق الجذور. ولِذا، فالنَّهضة، باعتبارها فِعلاً معيوشاً وفكريَّا، في الأساس والتَّأسيس، في الوقت عينه، هي خروجٌ من حالٍ «سلفيَّة» إلى أخرى لا سلفيَّة؛ لكن هذه الحال، على ما فيها من «لا سلفيَّة»، تبقى لصيقةً بتلك «السَّلفيَّة» التي سبقتها؛ إذ إنَّها منبثقة منها، في الأصل، وناتجة عن كثير من معطياتها ومقوماتها، في الوجود. إنَّها، تالياً، أرضيَّةٌ خصبةٌ لمراقبةِ حركيَّةِ الفعل «اللاَّ سَلَفي»، في انطلاقه من «السَّلفي» ومجالات فاعليَّته ونوعيِّتها من خلاله. وإذا ما كان الفكر الأدبيُّ واحداً من المجالات الطيِّبة لدراسة حركيَّة «اللاَّ سَلَفي»، ضمن «السَّلفيَّ»، فإنَّ طموح هذه الدِّراسة، التي ستنشر على حلقتين متتاليتين، البحث في محاولاتٍ لاثنينِ، مِن مُفكِّري القرن التَّاسع عشر وأدبائه، هما «الشَّيخ أحمد البربير» (1747-1811) و«أحمد فارس الشِّدياق» (1804-1887)؛ من الذين يُعزى إليهم فِعْلاً نَهْضَوِيَّاً في الحياةِالأَدَبِيَّة المعاصِرَةِ، والذين عاشوا أو أنتجوا في لبنان.

برزت، مع مطلع القرن التَّاسع عشر، حركة واضحة في مسار الحياة الأَدَبِيَّة والثَّقافِيَّة في جبل لبنان والمناطق المحيطة به. كانت معظم، إن لم يكن جميع، التَّوجُّهات الفكريَّة والثَّقافِيَّة والأَدَبِيَّة السَّائدة والمؤثِّرَة في ما يعرف بفكر عصر الانحطاط وثقافته وأدبه، قائمة على أبعاد عربيَّة وإسلاميَّة صرف. فالقرآن والسنَّة، فضلاً عن الأدب العربي والتَّاريخ الإسلامي، كانوا من أهم العناصر المشكِّلة للفعل الفكري عهد ذاك. وواقع الحال، فلم يكن لأي عنصر غريب عن هذه المجموعة أي دور حقيقي أو فعَّال في هذه المجالات؛ بل لعلَّه لم يكن في بال أحد من المشتغلين في النشاطات الفكرية والثَّقافِيَّة، في تلك المرحلة، أي هاجس حول وجود مثل هذا العنصر. ومع هذا، فإنَّ ملامح جديدة بدأت تبرز في الأفق. إنَّها ملامح، وإن توكَّأت على بعض الموروث العربي - الإسلامي، فإنَّها كانت تَطْمَحُ إلى تأسيس آفاق جديدة وِفْقَ منظور ثقافي جديد. ومع اجتماع هذه العناصر فيما بينها يبدو أن محاولات نهضوية بدأت تظهر سعياً إلى تأسيس جديد ما لم يكن قد توضَّح كثير من ملامحه بعد. إنها محاولات ترجو فراقا عن سلفيَّة واضحة جليَّة، أملاً في البدء في لا سَلَفية معيَّنة. ولعلَّ الشيخ أحمد البربير يُمَثِّل، في نتاجه الفكري الأدبي، واحداً من أبرز الذين قاموا بهذه المحاولة.

ارتوى الشَّيخ أحمد البربير، كما يبدو لِلْمُطَّلعِ على سيرته، من ينابيع الثقافة العربيَّة الإسلاميَّة حتى الثمالة. (البيطار:217-218) (شيخو:25-27) (المشرق/1901،9:396) (المُنْجِد: 85) نشأ البربير في مصر؛ وعاش رجولته في مدينة بيروت، فقيهاً إسلامِيَّاً وقاضياً للأمير يوسف الشِّهابي (1748-1790)، ومُشرِفاً على مدرسة لتعليم اللُّغة العربيَّة؛ إلى أن توفي في مدينة دمشق، واحداً من أعلامِ الثَّقافةِ الصُّوفِيَّة في ذلك الزَّمن. كان البربير يتَّبِعُ، في سلوكه الفِكريِّ، نهجاً يقومُ على «تجربة» مُحْيِّ الدِّين بن عربي (1164-1240) في وحدة الوجود؛ كما نقلها الشِّيخ عبد الغني النَّابُلسي (1641-1731) ومارسها (البربير: 40-67). تقوم هذه «التَّجرُبة»، كما يُفْهَمُ من شرح النَّابُلْسي والبَربير لها، (البربير:67) على اعتبار أنَّ القَوْلَ بمبدأ «وحدة الوجود»، ليس سوى الرَّد الصَّحيح على القَوْلِ بمبدأ «الحلولِ الإلهي»؛ إذ «وحدة الوجود» تُؤسَّسُ، وفاقاً للنَّابُلْسي، على الشُّعور الحَي، أي على المعرفة المُتَأتِّيَة مِنَ التَّجرُبَةِ الحِسِيَّةِ؛ في حين أنَّ مبدأ «الحلول»، هو مِن مُحَصِّلات العِلْمِ النَّاتِج عن إدراكٍ غير حِسِّي.

يُمَيِّزُ أحمد البربير، في فَهْمِهِ لوحدةِ الوجود، بين نوعين من الإدراك: «الحِسِّي»، ونتيجته الشُّعور؛ و«غير الحِسِّي» ونتيجته العِلم (البربير:57). وهو يرى أنَّ المعرفة المُكْتَسَبَةُ مِنَ الإدراكِ الحِسِيِّ، أي الشُّعور، قادرةٌ على استيعابِ المعرفةِ المُتَحَصِّلَةِ مِن الإدراكِ غيرِ الحسِّيِّ، أي العِلْمِ، بل وتجاوزها. وباعتبار الشِّعرِ مِن مُحَصِّلاتِ الشُّعور، أي مِن نِتاج الإدراكِ الحِسِيِّ، كما يذكر البربير؛ فيكون، حُكْماً، شامِلاً للعِلْمِ ومُسْتَوْعِباً له بالحَتْمِيَّةِ. ويُقرِّرُ البربير، في هذا السِّياق، أنَّ أيَّ نَقْصٍ في الشُّعورِ، يؤدِّي حتماً إلى نَقْصٍ في العِلْمِ المُتأتِّي عنه؛ بَيْدَ أنَّ النَّقصَ فِي العِلْمِ لا يؤدِّي، بالضَّرورةِ، إلى نَقْصٍ في الشُّعور. وهكذا، يُضحي الشِّعر، عند البربير، مُتَفَوِّقاً على العِلْمِ؛ فالشِّعرُ يحوي، أو يقود إلى، أمورٍ لا يُمكِنُ الوصولُ إليها عن طريقِ العِلمِ. ولِذا، فكلُّ شاعرٍ، عند البربير، عالمٌ؛ لكن ما كلُّ عالمٍ، بالضَّرورةِ، شاعِر. وإنطلاقاً مِنْ إيمان البربير بمبدأ «وحدة الوجود»، فإنَّه يرى أنَّ الإنسانَ بحاجةٍ إلى معرفةٍ تشملُ الكوْنَ برمَّتهِ؛ ويرى البربيرُ في الشِّعرِ مصدراً لهذهِ المعرفةِ الشُّمولِيَّة الكونِيَّةِ. ومِن هنا، يُعَظِّمُ البربير مقامَ الشُّعراء، بل إنَّه يرفعهم درجاتٍ على مقامِ العُلماء. ومِن هنا، ووفاقاً لما يراه أحمد البربير، يَتَبَوَّأُ بعضُ الشِّعرِ، وبعضُ الشُّعراءِ، مكانةً لا تتفوَّقُ على مكانةِ العلماءِ وحسب، بل تجاوِرُ تلكَ التي للأولياءِ، ولربما لمن هم في مَراقٍ أسمى. 

كان لأحمد البربير، بهذا النَّهج، أن يسعى بثقافة سلفيَّةٍ إلى قراءة لا سَلَفية إلى إعطاء الشعر دوراً لا سلفياً على الإطلاق. ولعلَّه، في المحصِّلة النهائيَّة لفكره هذا، يُشَكِّلُ التَّطوُّرَ الطَّبيعي «المتقدِّم» لِمَنْهَجِيَّةٍ سلفيَّةٍ فكريَّةٍ، والتَّشوّقُ الطَّبيعي القائمُ في حيويَّةِ هذه السَّلفيَّةِ إلى ما هو لا سلفي؛ وهذه قمَّةٌ لم يستطِع مُفَكِّرٌ أدبي عند العربِ، قبل البربير، أن يرفع الشعر والشعراء إليها. ولعلَّ في آراء البربير هذه ما يُشابِهُ ما أتت به النَّزعة الرومنطيقيَّة في أوروبَّا من أعطاء الدَّور الرَّسولي والبُعد الرؤيوي للشَّاعر. فالبربير استطاع، من خلال ثقافته الإسلاميَّة الصُّوفيَّة الصِّرف، أن يصل بالشِّعر والشَّاعر إلى رتبة اعتبرت الثقافة الغربيَّة أن الوصول إليها من الإنجازات الكبيرة التي حقَّقتها في تاريخ الفكر الإنساني.

لئن كانت هذه حال تجربة مفكِّر أدبيٌّ من بلادنا عاش في بيروت في مطلع القرن التَّاسع عشر، فإن ثمَّة محاولة أخرى لافتة للنَّظر تتجلَّى من خلال ما قام به مُفَكِّرٌ أدبيٌّ آخر من بلادنا، في النصف الأول من القرن التَّاسع عشر، لم ينطَلِق، هذه المرَّة، من بيروت، بل من جبل لبنان. فمع بروز حكم الأمير بشير الشهابي الثَّاني، ومع اشتداد سطوة الأمير وانتشار ذِكْرِهِ في المناطق المجاورة قوَّةً سياسيَّةً يُحْسَبُ حسابها، وبسبب من تعامل الأمير مع ديمغرافية البلاد التي يحكمُها. فقد كان جُلُّ أفراد إدارته ورجال بلاطهِ من المسيحيين الذين نشأوا في أجواء الكنيسة المحليَّة، وتلقوا ثقافة مما عرفه كهنتها ورهبانها. وبالطَّبع، فإنَّ أجواء هذه الثقافة، بحكم انتمائها الديني، كانت، في أغلبها، سعياً محلِيَّاً من الثقافة السريانيَّة واللاهوت المسيحي نحو الثقافة العربيَّة في أبعادها المتعدِّدَة.

مكتبة:

1) البربير. أحمد، الشَّرح الجَلي على بيتي المَوْصِلي، بيروت، 1302 هـ. 

2) البيطار. عبد الرزَّاق، حلية البشر في تاريخ القرن الثَّالث عشر، دمشق، 1961، الجزء الأوَّل.

3) شيخو. لويس، الآداب العربيَّة في القرن التَّاسع عشر، بيروت، 1924، الجزء الأوَّل.

4) المشرق. مجلة، بيروت، 1901، الجزء التَّاسِع.

5) المُنْجِد، باب الأعلام، بيروت، الطَّبعة الثَّانِية.

6) النَّابُلْسي. عبد الغَني، إيضاح المقصود من وَحدة الوجود، دمشق، 1969. 

-------------------

 رئيس المركز الثقافي الإسلامي