يفاتح الروائي أسامة رقيعة قرّاءه بإهداء روايته «مامبا سوداء»، (الصادرة حديثًا عن دار فضاءات) إلى أمّه وجاراتها الطيّبات، فتظنّ أنّ سرّ الرواية كامن في تراث الحكايا الشفويّة، ممّا سمعه على لسان السيّدات الطيّبات، من تراث الأدب السوداني الشعبي، منها ما يتعلّق بالسحر وعالم الجنّ، ومن ثمّ تطالعك أسماء الشخصيّات، من ملعوبة الشخصيّة الرئيسة وأخواتها رغبة وعيناء وحاشدة وفرعاء، ووالدتهنّ شهوة ووالدهنّ مستر فايف برسانت، فتعرف أنّك لم تبتعد عن مراميه، ويبدأ السرد في حرفة التنقّل بين عالمين، عالم الجنّ وعالم الأنس، مع الإضاءة على ذلك الثقب في التنقّل بينهما، استدعاء واستحضاراً، تختلف الأسباب ليبقى الشرّ واحداً، عالم الجنّ المتمثّل في الرواية بجايكا ومايكا، وما يريدانه ومن استحضرهما، مع كلّ القوانين التي تحكم عالمهما، في أصول محاكمات ذلك العالم، وعالم الأنس، الواقعي المحكوم بأشرار يتربصّون ببعضهم بعضاً، مع أناس لا تخلو حياتهم من الحبّ والانتصار له بالفضيلة والصبر، وأيضاً بين عالمين، عالم يجسّد القيم والأخلاق والطيبة والعطاء، وعالم يجسّد النفاق والسرقة والاستغلال، لكنّ الروائي، سرعان ما يتحوّل إلى عالم آخر، في القاعات الجامعيّة، حيث يتنقّل الحديث من محاضرة عن الحبّ الأفلاطوني، إلى أخرى في الهندسات الفيزيائية فالأسئلة الوجوديّة وتداعيات التكنولوجيا في واقع الحياة اليوميّة، وصولاً إلى اختراق هذا العالم الجامعي، بمن تتربص بهم شرّاً ومكائد.
يتنقّل فيه السارد بين الشرق والغرب في السرد الواقعي، من دون أن يحصره في مكان ما، لكنّ التسلّل بين فضاءين، من خلال ملعوبة وجايكا، هو فتنة الرواية، ملعوبة تبيع نفسها للجنّ، في خضوع تام للتمتع بملذّات الحياة واختبار الاقتدار على من حولها، من أجل الحصول على امتيازات فائض قوّة تدمّر فيها كلّ من تجده عائقا في سبيل طموحاتها، لتكون في العالم الواقعي سيّدة القرارات والتحكّم بمصائر الناس. ملعوبة لا تمثّل نفسها فقط، هي تمثّل النموذج الذي أراد الروائي الإضاءة على أساليبه في جدليّة الصراع بين الخير والشرّ في عالمنا. إذ تحيل المكائد والدسائس إلى العالم الواقعي في الاستعانة بتسخير عالم الجنّ من أجل المزيد من السلطة والمال والحبّ المتملّك، ورموز الأسماء ما هي إلا دليل على ذلك. كذلك ربط عنوان الرواية «مامبا سوداء» الثعبان الأكبر في العالم والأكثر خطراً وسرعة هجوم، إحالة إلى خطر سمّ اللجوء إلى الدسائس والمكائد بالاستعانة بعالم السحرة وطقوسهم التي تؤدّي إلى خراب المجتمعات وتخلّفها.
أمّا اللغة فجاءت مكثّفة وعميقة تغوص على عمق العالم وما فيه من ألغاز وحكايا، وتكاد تكون شخصيّة أساسيّة لفرط إتقانها وعمقها وبلاغتها. فحين يخفت النمو العضوي للحدث في تلاشي الأحداث، تراه يعمد إلى النموّ الاستعاري، بتوليد الصور الوصفيّة التي تتوالى بإيقاع سريع، فتضعنا في مناخات تخدم السرد الغرائبي، وبخاصّة حين وصف لنا ليلة ملعوبة الأولى مع جايكا، كذلك في ليلة انتظارها الأربعين له مع كلّ طقوس استحضاره من بخور وعلبة زجاجيّة وأجواء الغرفة والسرير واللباس وغيرها. أو تلك اللوحات الوصفية، في تصوير محاكمة الجنّ في مثلّث برمودا، التي تشكّل نسيجاً تسهم في رسم العالم الروائي، وتالياً، تجعلنا نحاول استنباط أسئلة العالم الروائي لدي أسامة رقيعة في هذه الرواية، وهو الآتي من عالم قوانين الأعمال وقد صدرت له أكثر من رواية: هل يحاول الكاتب أن يقوم بمساءلة زمننا الراهن في ضوء الصراع بين الخير والشرّ بواسطة الإرادة الخيّرة؟ هل انتصار الكاتب للقيم وقوى الخير رسالة إلى كلّ الذين ما يزالون يؤمنون باستحضار الجنّ والأرواح من أجل الكفّ عن ذلك والإيمان بقدرة الحبّ في سبيل الوصول إلى الحقيقة؟ هل لجوء الكاتب إلى تصوير الصراع بين العقلانية والظلاميّة، المتمثّلة كلّ منها بأسلوب حلّ مشاكلها، ينجح في الانتصار للعقل؟!
د. ناتالي الخوري غريب
أكاديمية وروائية لبنانيّة