بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 آذار 2024 12:00ص محاولة التدمير «الممنهج» الجاري للأسرة اللبنانية وقِيَمها (1/4)

حجم الخط
د. محمّد شـيّا*

1- التعريف بالأسرة وأهميتها باختصار شديد:
لا حاجة للتوقف طويلاً عن التعريفات الكثيرة للأسرة أو العائلة.
في شكلها الأكثر قبولاً، أي الأسرة النواتية الصغيرة nuclear family، يجري تعريف العائلة كـ«وحدة صغيرة تتألف من شريكين (زوج وزوجة) مع أطفالهما، وبهدف رعايتهم، وطالما هم يعيشون تحت سقف واحد». واعتبرت كل الوثائق الدولية، من إعلان حقوق الإنسان والمواطن كانون الأول 1949 إلى «وثيقة الأخوة الإنسانية» أيو ظبي 2019، أن الأسرة هي حجر الزاوية في المجتمعات الإنسانية.
إلاّ أن تعريف الأسرة بات يخضع حديثاً لمحاولات تعديل، جزئية أو جوهرية. ويتضح ذلك من تعريفات العائلة الأكثر راهنية في الطبعات الأخيرة من القواميس والموسوعات فبات بعضها يتجنّب التحديد (رجل وامرأة) ويستبدلها تحت ضغط جماعات قوية غربية، بمفاهيم جديدة كلياً، مرتبكة، ومتناقضة، من مثل «شريكين متوافقين»، وأحياناً أكثر من ذلك.
في مسألة أهمية العائلة أو الأسرة، أكان على مستوى الشريكين، أو لجهة تنشئة الأبناء، وهو الأكثر أهمية لهذه الورقة؛ يظهر الأمر حقيقة ثابتة، مسلّمٌ بها في تعريف الأسرة؛ ولم أقرأ لباحث جاد واحد يتنكر لها - طالما أن الوالدية لا تعني صك ملكية أو الاستبداد، فالوالدان مؤتمنان (بالمعنى الدقيق) على التنشئة الأفضل لأبنائهما ليبلغوا أو يبلغن سن النضج وإمكانية الاستقرار العمري والنفسي والجسدي واستقلالية القرار بالتالي.
أكتفي في أهمية الأسرة بقول أعجبني جداً يصحّ اعتبارها «القاعدة» لفكرة الأسرة على الدوام، «الأسرة هي المكان الوحيد الذي يجري فيه دمٌ واحد في الشريان الأبهر... دمٌ صافٍ، يتواصلُ في ألياف العائلة، في حلوها ومرّها، وفي نجاحاتها واخفاقاتها».
من لا يؤمن بالقاعدة المركزية أعلاه لا حاجة بنا للاستماع لخطابه، لا لزوم له، كي لا نقول أكثر أنه خطير ويجب توقي الضرر الأكيد الناتج عنه - وهو حال بعض الشطحات ما بعد الحداثية التي «يتسلّى» بها بعض الأفراد المعزولين في ديارنا (اللبنانية والشرقية) كصدى يقلّد على نحو ببغاوي مضحك تطرف غربي جديد (لا حديث) يهدف بوضوح إلى تدمير الأسرة كنواة للمجتمع، فكرة وقيماً ووظائف وحتى وجوداً. ما الغاية من محاولة التدمير تلك التي انطلقت في الغرب منذ ثلاثة عقود؟ يمكن اقتراح أجوبة عدة، يتصل معظمها بحالة حضارة دخلت على الأرجح مرحلة أزمتها التاريخية قبل التحوّل ربما إلى شكل آخر كي لا نقول الموت انتحاراً!
هذا هو مدخلي الشخصي نحو الموضوع الأساسي، وهي المخاطر غير المسبوقة التي تتهدد منذ عقد واحد الأسرة اللبنانية العربية والشرقية، وجوداً وقيماً.
في ما سيلي عرضٌ أفقي مختصر للمخاطر الناجمة عن إخفاق العائلة أو الأسرة اللبنانية تحديداً عن القيام بوظائفها الطبيعية التقليدية، والأسباب أو الظروف التي قادت إلى الإخفاق ذاك.
لكن الجديد في الورقة هذه، هو تسليط الضوء على تطور جديد خطير جداً بدأ منذ بعض الوقت واشتدّ أخيراً عالمياً، وطال الأسرة اللبنانية أيضاً، مع الأسف، وهو محاولة التدمير الجارية لمفهوم العائلة أو الأسرة من خلال الإفساد المتمادي لمفهوم العائلة في تكوينها، ووظائفها ونظام قيمها.
التطور الجديد الخطير ذاك سيحتلْ القسم الأعظم، القسم الثاني، من هذه الورقة.
2- أشكال أزمة الأسرة اللبنانية اليوم، في قيمها، ووظائفها المعروفة:
باختصار شديد، تكمن أزمة الأسرة اللبنانية اليوم - وأعني بالأزمة عموم الأمر أي غالبه - في أمرين:
أولاً، عجزها المتزايد عن الوفاء بما هو متوقع منها، على مستوى التنشئة الأفضل للأبناء، وانحسار دورها الاجتماعي كضمانة لأمن المجتمع وتماسكه؛
ثانياً، المخاطر المستجدة القادمة من خلف البحار، والتي تطال الآن لا وظائف الأسرة فقط، وإنما تحديداً: قيمها، ثقافتها، دورها، وحتى شكلها الشرعي المتوافق عليه ديناً ودنيا.
سأتحدث في هذه الفقرة عن الجزء (1) فقط تاركاً الجزء (2) للقسمين اللاحقين من الورقة هذه.
تتبدّى مظاهر الأزمة الحالية التي تضرب الأسرة في المعوّقات والتهديدات والمخاطر التالية:
أ- العجز المتزايد للأسرة في نقل ثقافة المجتمع المتوافق عليها عموماً (وهي إحدى وظائف الأسرة) إلى أبنائها وبناتها؛ وإلى حد الملاحظة لهوة واسعة بين ثقافة الوالدين وثقافة الأبناء؛
ب- في ثقافة الأسرة أيضاً، عجزها عن تخليق أبنائها وبناتها الآن بالقيم التي نشأ عليها الأب والأم، وهو ما جمعهما فتوافقا على تكوين أسرة؛
ت- انهيار الجدران التي تحمي الأسرة من المفاسدة الكثيرة التي أصابت مجتمعنا في العقود القليلة السابقة وانتقلت إلى الأفراد الأسرة، وتتمثل في انهيار القيم الأخلاقية والدينية والاجتماعية وشيوع ظاهرتين متلازمتين؛ الفردية بالمعنى الأناني، حتى داخل الأسرة، وما ينتج عن الانهيار ذاك من مفاسد أخرى من عادات وأمراض وأعراض لم نتعوّدها من قبل في الأسرة اللبنانية؛ وهيمنة الغرائز على ما عداها في طريقة تفكير أفراد الأسرة (وليس الأبناء فقط) لجهة الانغماس في السطحي والشكلي والاستهلاكي والمصطنع في كل شيء، والابتعاد عمّا هو حقيقي ودائم ووبنّاء؛
ث- وصول أشكال الفساد (الأخلاقي) المستجد الأكثر خطورة إلى الأسرة، بدءاً من الإدمان ووصولاً إلى ما هو أخطر من ذلك بكثير، وهو ما سنعرض له لاحقاً؛
ج- تفكك وحدة الأسرة، وغياب التضامن الايجابي المتوقع منها، وخسارة قاعدة تقليدية لوحدة المجتمع وتماسكه؛
ح- انتشار «العزلة الأسرية»، إذا صحّ التعبير، إذ توقف تقريباً التفاعل بين الأسر في القرية الواحدة والحيّ الواحد، وصولاً إلى فقدان التفاعل والارتباط احياناً داخل الأسرة نفسها، لا بين الأبناء والوالدين، وهو تناقض مبرر ومعروف، وإنما بين غالباً بين الأبناء أنفسهم، وأحياناً بين الوالدين أيضاً؛
خ- إنتشار خطاب الكراهية والحقد والحضّ على التقاتل في ما ينشأ عليه الأبناء والبنات، بدءاً مما هو مقبول كالتربية على المنافسة والإصرار على نيل الحقوق، ولكن انتقالاً إلى غير مقبول، أي قبول شطب الآخر، كل آخر، والحض على تدميره لا لسبب واضح إلّا إرضاء لغريزة الفردية بمعنى الأنانية المَرَضية القاتلة؛
د- إنحلال الروابط الطبيعية التقليدية التي كانت تربط بين الأعمار، داخل الأسرة وخارجها؛ وبين الأجيال، كإهمال الأقربين، (الجيل الأول الجدّ والجدّة، ثم الوالدين إذا كانا معتمدين على أبنائهم) حين يصبحون كباراً في السن، وعاجزين، أو مرضى؛ وإبدال الروابط التقليدية الطبيعية تلك بروابط جديدة غير طبيعية بل مصطنعة؛
ذ- إنتشار السيئ من العادات والطقوس المجتمعية المستجدة على مجتمعنا، من مثل «إلزامية» الخروج ليلاً والسهر خارج المنزل حتى ساعة متأخرة من الليل، للشباب والبنات، «إلزامية» أن يكون له، وخصوصاً لها، رفيق لا كصديق بل وعذراً للتعبير boyfriend or girl friend؛ وأحياناً بالمعنى المبتذل والسيئ والخطِر؛
«إلزامية» الإنفاق دون حساب، كمظهر ضروري للمعاصرة والموضة عند الشباب؛
«إلزامية» اللحاق بالموضى، واقتناء ما لا حاجة للشباب به، بل والصرعات وما شابه؛
ر- وتبقى أم المخاطر ورأسها، تفكك وحدة الأسرة، من الداخل، وتشتتها وانحلال قيمها؛
ز- إنحلال الإسرة يعني انحلال وغياب ركنٍ أساسي من الأركان الضرورية لقيام أي مجتمع سليم، ولطالما نوّه فلاسفة السياسة من أرسطو إلى الفارابي إلى المحدثين أن الأسرة هي النواة التي تتألف منها الجماعة، ومن ثمة المجتمع؛
س- الخطر الذي تتعرض له الأسرة، وجوداً ووظائف وقيماً، تهدّد جديّاً الهوية الوطنية والمواطنة والانتماء، بدليل التمزّق الداخلي في ما خصّ الهوية الذي يتعرّض له الأبناء حين ينسلخون طويلاً عن أسره.
هذه بعض المخاطر التي تنشأ عن فشل الأسرة في القيام بوظائفها، أو عن التدمير الممنهج الجاري (إذا نجح) لثقافة الأسرة وربما لوجودها بالكامل.
--------------
* عميد سابق لمعهد العلوم الاجتماعية