بيروت - لبنان

اخر الأخبار

19 آذار 2024 12:00ص محاولة التدمير «الممنهج» الجاري للأسرة اللبنانية.. وقِيَمها (2/4)

حجم الخط
د. محمّد شـيّا*

3- أهم الأسباب التي قادت إلى المخاطر المهدّدة للأسرة اللبنانية الآن:
باختصار كذلك، وبين عشرات الأسباب والعوامل والظروف، التقليدية أو المستجدة، التي تهدّد حُسن القيام الأسرة بوظائفها المعروفة، أخترتُ عينة فقط تمثّل ما هو أوسع بكثير، وبعضها:
أ- عدم قدرة الأسرة على تحمّل الضغوط الخارجية، المادية والمعيشية والاجتماعية؛
ب- احتمال عدم تمتع أحد الوالدين، أو كلاهما، بالكفاية الوالدية، والأهلية الاجتماعية والنفسية؛
ت- الترهل والضعف بل الغياب الذي بات عليه الوازع الديني في الغالب من الحالات، ليس على السطح، وإنما تحت السطح، أي في الواقع الفعلي؛
ث- الغياب المتزايد لسلطتي القانون (في الخارج) والضمير الأخلاقي الصحيح (في الداخل).
ج- الانقطاع المتزايد للروابط التي كانت تزوّد الإبن أو البنت بآليات المقاومة لتردّي الأوضاع الخارجية، المادية والاجتماعية، ما أحالهما في غالب الأمر ورقة رقيقة لا وزن لها يتلاعب بها رفاق السوء، أو الطغيان الاجتماعي المشوّه الجاري؛
د- الضغط الإعلامي غير المسبوق الذي تتعرض له دون رقيب أو حسيب الأسرة اللبنانية والعربية عموماً، والذي يُدخلُ على مدار الساعة ثقافة جديدة غريبة دخيلة على ثقافتنا ومجتمعنا وعلى تعوّدت عليه الأسرة اللبنانية الشرقية والعربية؛ الأسرة الآن مكان مستهدف بإعلانات مشوّهة، ومشوّهة، في غالبها حتى لا نقول كلها؛ ينجزها شياطين بلا دين ولا ضمير ولا قيم ولا احترام، ولا ربّ لهم غير المال وما تختزنه نفوسهم الشريرة من غرائز وميول منحرفة.
ذ- الاستخدام المبتذل لمفاهيم هي في الأصل سامية من مثل حداثة، عصرية، حضارة، مساواة، حقوق الإنسان، والحريات بشكل عام. وفيما كان المعني الأصلي للمفاهيم تلك تقدّم الفرد وترقّيه العلمي والثقافي والاجتماعي، والاعتراف بحقوقه الطبيعية التي كان صادرها المستبد الاجتماعي أو السياسي أو الديني، باتت تعني في «زمن التفاهة» النقيض في معظم الحالات: فبدل الترقي العقلي هناك عودة للغرائز، وبدل الترقي العلمي هناك امتداح للجهل في زمن العولمة وليس مطلوباً من الفرد أن يكون مواطناً صالحاً، ولا فرداً صالحاً، في أسرة أو جماعة؛ وإنما مجرد «حيوان مستهلك»، يملك نقوداً، لم يتعب فيها، ليشتري سلعاً لا يحتاجها.
ر- الجهل الطاغي، في الأسرة والمجتمع وحتى في الأنظمة التعليمية، لثقافتنا التي كانت خلف تفوقنا وقيام وطننا ونجاح أبائنا حتى الأمس القريب؛ والانبهار بدلاً من ذلك بثقافات مستوردة، مصطنعة، وتخبّئ (تحت ستار من العصرية والتمدّن) ما لا يوحي بالثقة كما يبدو بوضوح وبالملموس اليومي.
ز- ويجب أن لا ننسى، بل نعترف، أن بعض أشكال الاستبداد العائلي الذي يمارسه والد أو الوالدان، في بعض الأسر، هو سبب مباشر في إخفاق العائلة في القيام بوظائفها، وفي تفككها، وصولاً إلى ما هو أسوأ من مثل رمي الأطفال نحو حياة متناقضة مفتوحة لكل أشكال الفساد.
ولكن، وكي لا نظلم الأسرة اللبنانية كثيراً، فهي بدت في كثير من الحالات في السنوات الخمسين الأخيرة (1975-2024) الضحية لكثير من الضغوط الخارجية التي تتجاوز كثيراً قدرتها على المقاومة. بعضُ أهم الضغوط التي فاقت قدرة الأسرة على المقاومة، هي:
أ- تأثير الحروب المتلاحقة طوال خمسين عاماً وتدميرها شرط الاستقرار السكني وقيام الأسرة بوظائفها المعروفة. فقد اندلعت حروب خارجية وداخلية، وكان هناك أكثر من احتلال، وحدث لعشرات ألوف الأسر اللبنانية نزوح نحو الداخل أو هجرة قسرية نحو الخارج، وفي الحالين عانت الأسرة اللبنانية الكثير، وحرمت من القدرة على القيام بوظائفها على أحسن وجه؛ ولعل أكثر الأمثلة دموية على ما تفعله الحرب بالأسرة هو ما يجري للأسر في غزة الفلسطينية منذ 4 أشهر، وتأثير ذلك على حسن قيام الأسرة بوظائفها الطبيعية، وانحلال نظام القيم فيها، وصولاً إلى تدمير الأسرة نفسها كنواة للجماعة والمجتمع.
ب- دخول العالم منذ نهاية الثمانينات مرحلة ثقافية/ اقتصادية جديدة، وهي هيمنة ثقافة العولمة المالية التجارية الاستهلاكية، ومصدرها أهم مراكز المصارف وأسواق المال في العالم، من طوكيو شرقاً إلى لوس أنجلس غرباً. في أقل من ثلاثين سنة جرى تدمير ثقافة الحداثة القائمة على حد مقبول من العقل وتوزيع الثروة والضمانات الصحية والاجتماعية. في ظل ثقافة العولمة الجديدة انتهى دور الدولة كحارس للمصلحة العامة، وكمنصة للخدمات الأساسية welfare state. حل محلها مفهوم جديد للدولة لتنسحب معه كلياً من أي تأثير اقتصادي وأي دور أجتماعي. وانسحب التحول ذاك في إنقلاب تربوي / إعلامي تخلص من قيم عصر الحداثة والعقل، وعمل على إقناع سكان الكوكب بأسره أن الهدف من الاقتصاد هو الربح والمزيد من الربح فقط، وبكل وسيلة متاحة، دونما أي اعتبار أخلاقي أو إنساني. وعليه دخل في وعي ولا وعي الناشئة، أي الأطفال والشباب أن لا قيمة تعدل قيمة الربح المالي والأعمال التجارية المجزية، ودون أي اعتبار آخر. من جديد ظهرت الأسرة ونظام قيمها التقليدي ضحية مباشرة للتحول العاصف الذي جرى في فترة زمنية قصيرة جداً.
ت- في موازاة ذلك تماماً، انهار الاقتصاد العام في لبنان، واقتصاد الأسرة بالتالي، الذي تصاعد منذ سنوات ليبلغ ذروته في السنوات القليلة الماضية (2019-2023)، حيث توقفت عجلة الاقتصاد والعمل المنتج، فأصابت البطالة الصريحة أو المقنّعة رب الأسرة، والبالغين فيها، فتدنّت مداخيل الأسرة، وبات المطلوب منها يفوق كثيراً قدراتها المالية، وما اتصل منها خصوصاً بالطبقة الوسطى التي كانت تشكل تاريخياً نصف الهرم الطبقي في لبنان. انهارت الطبقة الوسطى، تساقط جزء كبير منها إلى صفوف الطبقة الدنيا، وربما بعضها إلى شرائح ما تحت خط الفقر. لكن الغياب المتسارع للطبقة الوسطى ليس مجرد تطور اقتصادي أو مالي عادي، بل هو تطور ثقافي وسياسي واجتماعي رئيسي سيترك آثاراً مدمرة على وحدته الوطنية، وعلى أمن المجتمع، واستقراره. أسس الهبوط الواسع لأسر كثيرة في الطبقة الوسطى نحو قعر السلّم الاجتماعي لواقع عجز الأسرة عن القيام بوظائفها المعروفة، ولتزايد ميول أطرافها وأبنائها نحو ردود أفعال غاضبة، ونحو العنف بكل مظاهره، ونحو أشكال انحراف متعددة أخرى بالغة الخطورة ومعروفة جيداً.
ث- غياب القانون والمجتمع المدني والقضاء وكفالة الحريات العامة والشخصية، لينشأ على ركامها ظواهر خطرة جداً على استقرار العائلة وحسن قيامها بوظائفها، من مثل الاستبداد السياسي والطائفي والمذهبي؛ فتراجعت قدرة الأسرة اللبنانية على الاحتفاظ بحرية اتخاذ القرارات بخصوص مسائل كثيرة، ومنها ارتياد أبنائهم المدارس الوطنية لا الطائفية، ونوع تنشئتهم، ومكان سكنهم، إضافة إلى القمع الذاتي التي باتت تمارسه الأسرة على أبنائها من باب الخشية والخوف.
باختصار شديد، الأسرة في لبنان هي منذ ثلاثة عقود، وبخاصة في السنوات القليلة الماضية ضحية لتحولات عاصفة أطاحت بنظام قيمها المتوارث، بثقافتها، فأصبحت عاجزة عن الاستجابة الصحيحة للوظائف النفسية والثقافية والتربوية والاجتماعية التي تتولاها في تنشئة أفرادها. 
هذا هو شكل الأزمة كما بدت منذ سنوات، خطيرة جداً، بنيوية، عاصفة؛ وأهم من ذلك أنها فتحت نصف الباب (حتى لا نقول أكثر) لاختراق غربي راهن يتمثل الآن في محاولة التدمير الأخير للأسرة في شكلها الطبيعي الذي نعرفه، والضغط المالي والإعلامي وربما السياسي أيضاً لاستباحة المجتمع اللبنانية وإبدالها بثقافة منحطة ( أخلاقياً واجتماعياً وبيولوجياً) عنوانها: فرض الانحلال الجنسي على الأسرة اللبنانية الحالية، بالرشوة أو الإكراه، وهو موضوع الفقرة التالية.

* عميد سابق لمعهد العلوم الاجتماعية