بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 آذار 2024 12:00ص محاولة التدمير «الممنهج» الجاري للأسرة اللبنانية، وقيمها 3/4

حجم الخط
   د. محمّد شـيّا

4- التطور الأخير الأكثر خطورة: محاولة الإفساد «الجنسي» الجارية للأسرة اللبنانية؟
ما مررنا به حتى الآن ربما عادياً قياساً بالتطور المستجد والأكثر خطورة وهو تحديداً: محاولة التدمير الممنهج الجاري لشكل الأسرة اللبنانية (الشرقية العربية)، لجهة أغراء الشباب لقبول فكرة «زواج مختلف»، غير شرعي، أو مساكنة غير شرعية، لأنهما ببساطة منافيان للطبيعة، قبل أن يكون للشرع؛ ومدمّران للأسرة وللمجتمع؛ ويفتح ثالثاً باب جهنم على احتمالات ومخاطر غير مدركة كلها حتى الآن. هذا ما تسميه الورقة هذه: «الإفساد الجنسي الممنهج». هذا تطور مجنون جاء به مجانين منحرفون، وهذا أقل ما يقال.
لا حاجة للتخمين، أو لاستخدام المنظار، لمعاينة تفاقم «الإفساد الجنسي» ذاك الجاري منذ فترة في القعر المخفي للمجتمع اللبناني، كان دون ضجيج كبير حتى وقت قصير، إلى أن غدا أخيراً أكثر جرأة بل وقاحة.  قصصُ هذا الوافد المستجدّ تشعرُ الكاتب، كما القارئ، بالقرف، وبالتحسّر أن يجري ذلك تحت يافطة الحريات وحقوق الإنسان، خداعاً وتزويراً!
ولكن ما الذي أسهم في صعود هذا الوافد الجديد البالغ الخطورة؟
وما الطريق أو الطرق التي استخدمها رعاةُ التطور المجنون ذاك في اختراق أسوار الأسرة اللبنانية؟
جواباً على السؤال الأول، نقول أن الطريق غير الطبيعي والمتسارع الذي اختطه العالم الغربي المتقدّم منذ الثمانينيات على الأقل كان متوقعاً له أن يبلغ نهاياته آخر الأمر – ولكن ليس بالسرعة التي جرت بها الأمور. 
اختارت الشركات المالية والتكنولوجية، وربما بعض الفكرية والسياسية أيضاً، منذ ثمانينات القرن الماضي التجديد «الثوري» في كل شيء – بل الانقلاب على كل شيء وانتهى إلى تخريب كل شيء، وخصوصاً تدمير العائلة وهو ما يعنينا الآن. 
ذهب الانقلاب ذاك في ثلاث خطوط متوازية، وليس مهماً أيُ منها أولاً أو ثانياً:
الخط الأول، التخريب «الفكري والثقافي» منذ نهاية الستينيات ومطلع السبعينيات لكل مبادىْ الحداثة ولكل ما في من تشديد على العقلانية والتوازن والإنسان كقيمة سامية مطلقة، في ذاتها، أي ليست في خدمة أي غرض آخر، وليست مشروطة بأي شرط أو ظرف أو تبرير. قامت الفلسفة الحديدة، أو ما سمّي ببعض الاتجاهات المتطرفة في ثقافة ما بعد الحداثة postmodern culture على نقض كل ثوابت عصر الحداثة: الشك بدل اليقين، الإلحاد بدل الإيمان، الفوضى بدل النظام، التطرف بدل التوازن، التمرّد على القانون والمؤسسات ومنها الأسرة والمجتمع، الاحتفاء بكل ما هو غريب غير طبيعي بل ومناف للعقل والطبيعة. أما مفهوم الإنسان بالمعنى الحداثوي المعروف فلم يعد موجوداً أو معترفاً به: نشأ مفهوم وحشي للإنسان: عبادة الأنا، وليذهب الآخر إلى حهنم.
الخط الثاني، والمتأثر بالخط الأول، فهو إطلاق تفكير اقتصادي- مالي يقوم على فكرة أن هدف النشاط الاقتصادي ليس الرفاه العام أو المجتمعي بل الربح المادي والمالي حصراً وبالعنوان الصريح. كل نشاط اقتصادي يجب أن يستهدف حصراً الحصول على الربح، والمزيد من الربح (المادي والنقدي وسواه). في سبيل الهدف ذاك لا محرّمات أو تحفظات أو خطوط حمراء. في سبيل الهدف ذاك غير مطلوب لا العقل ولا العلم ولا الدين ولا الأخلاق وما شابه؛ أو هي مقبولة بمقدار ما تخدم الهدف الأصلي، الربح المادي والمزيد من الربح، واستباحة أو استخدام كل أداة وطريق في خدمة الهدف ذاك. الحياة business ولا شيء غير ذلك. 
الخط الثالث، المساند، أو المؤسس لا فرق، هو التطور التكنولوجي المتسارع والفالت على هواه، بلا رقيب أو قيد أو حدود، الذي كنا قلنا بلغ ذروته في الاستنساخ والتدخل في الخارطة الجينية، فإذا به يخترق المحظورات أكثر من خلال الخطوات المتسارعة في حقل الذكاء الإصطناعي. لم يتدخل المشرّغ الأمريكي – وهو الأصل- في كبح هذا الاندفاع إلا في موضوع استنساخ البشر أو الأجنّة البشرية  -علانية على الأقل. والوضع اليوم أكثر سوءاً بكثير، فبضع شركاتٍ تقنية ومعلوماتية تتحكم بالعالم بأسره، وتقوده إلى نهايات مجهولة مشفوعة بتمويه إعلامي وإعلاني وثقافي وفكري لا سابق له، ولا قدرة للأفراد وحتى للحكومات أن تتحكم به أو تتصدى له.
هذا هو التحالف الشرير الذي يقود تطور العالم اليوم، ويحكم السياسات الكبرى التي باتت تعتبر إشعال الحروب باستمرار، ومن منطقة إلى أخرى، جزءاً حيوياً وطبيعياً من «عدة الشغل» المطلوبة في تخريب العالم لصالح الأقوىى، أي الشركات العملاقة، شركات المال، وال it ، وتصنيع السلاح.       
وللثلاثة معاً: الإنسان غير موجود. وإذا وجد، وكان لا بد منه، فكمستهلك، حيوان استهلاكي، فقط. 
ولكن لماذا يستهدف هذا التحالف العائلة الآن، في أمريكا وأوروبا والعالم بأسره، وعندنا قبل سوانا؟ 
الجواب، أنه بعد تدمير النموذج السوفيياتي، ثم الرأسمالية المعتدلة المقبولة لصالح اقتصاد السوق دون أي ضوابط، ثم مفهوم الدولة كراعي اجتماعي وللمصلحة العامة، لم يبق غير العائلة عقبة أخيرة يجب التخلص منها لاكتمال مشهد الفوضى العالم والسيطرة على البشر كأفراد معزولين عن أي جدار حماية (الفكر، الدين، الدولة، المجتمع، والعائلة) وسوقهم عبيداً لأهواء أرباب التحالف الشرير ذاك!      
محلياً، يتشكّل الطريق الأقصر المستخدم لتحقيق الهدف الشرير في تدمير العائلة من خلال الضغط في أربعة خطوط متكاملة:
الأول، التمويل الغربي والأممي المالي المباشر للجمعيات المحلية أو المستوردة، وللأشخاص، وبعض الأحزاب والنوّاب، ربما، بهدف نشر ثقافة الانحلال الأخلاقي، والجنسي خصوصاً، في أشكاله الشيطانية المختلفة.
الثاني، التهويل على الحكومة اللبنانية والمؤسسات ذات الصلة بالتقديمات والقروض الغربية والدولية، وربط توفيرها واستمرارها بالامتناع عن كل ما يعيق حرية حركة «المثليين والمتحوّلين» العلنية،بل أكثر من ذلك طلب حمايتهم بالقانون من مثل محاولة تعديل المادة 534 من قانون العقوبات اللبنانية التي تحظر الشذوذ الجنسي.
الثالث، مع الأسف، تساهل الكثير من وسائل الإعلام (والمرئي على وجه الخصوص) مع مواد إعلامية متقنة التصنيع ةمعروفة المصدر تروّج بطرائق خبيثة للانحلال الجنسي، وتسهّل إشهاره، وإشهر مروّجيه، وإدخاله بالتالي في لا وعي  المشاهد كأمرٍ عصري، عادي، دونما خجلٍ أو وجل، أو أدنى احترام للعائلة اللبنانية وقيمها، ولثقافتنا الشرقية العربية، وللقوانين النافذة، قبل ذلك وبعده.
والرابع، أخيراً، وهو أمر محزن، تساهل (حتى لا نقول غير ذلك) الكثير من جمعيات «المجتمع المدني» ورموزه مع المخطط الشيطاني الدولي، على الأرجح، لتدمير ما تبقى في مجتمعنا من ثقافة محترمة، ومن إنسان لم تبقِ منه هذه الحضارة المادية الاستهلاكية وثقافة العولمة «الكلبية» المسيطرة إلا القليل. نكاد لا نصدّق أن جمعيات مثل «المفكرة القانونية» أو «المركز الاستشاري» وسواهما يروّجان لتسهيل الانحلال الجنسي، بحجة حرية الإنسان و«الثقافة اللبنانية التعددية والقائمة على حرية الاختيار»!!!! هذه ليست حرية إنسان، ولا حقوق إنسان، بل الاثنين معاً: الرغبة بالانتحار تحت ضغط وإكراه جمعيات دولية (مشبوهة) تروّج لتفكير يمنع التفكير، ولعصرنة هي عودة إلى حظيرة الحيوانات، ولحرية مزعومة هي عبودية مستجدة.
  بسبب من الإكراه والضغوط الجاريين، وبتواطؤ رسمي لا يخفى على مراقب، لم يعد الفساد الأخلاقي نزوة حيوانية هنا، أو حالة فردية مجنونة هناك، مستهجنة ويعاقب عليها القانون. بات الفساد في ظل نظام العولمة الطاغي، ومراكزه المشبوهة، إفساداً، يجري القبول به، بل والتشجيع عليه من قبل الشركات الدولية المشبوهة وممثليها المحليين. بات الفساد والإفساد في كل مجال نظاماً دولياً متكاملاً متسانداً، ثقافة جديدة في حقل الأعمال، وصناعة متقنة، رائجة، لها أربابها، وصنّاعها، ومحاموها، وإعلامها، والمستفيدون من فُتات أرباحها أيضاً. فلا عجب بالتالي أن ينال بعض اللبنانيّين، في لحظة تأزم أحوالهم المادية والسياسية، وبعض الأسر، مع الأسف، الانهيار الأخلاقي الذي نشهده اليوم.
إلامَ أدّت الضغوط الأربعة تلك، وعلى العائلة اللبنانية قبل سواها؟
يجب الاعتراف، أن العائلة اللبنانية تشهد هذه الأيام، وتحت ضغوط اقتصادية واجتماعية وإعلامية لا تحتمل، مظاهر تراجعٍ كبير في تماسكها واحتفاظها بأدوارها المختلفة. العائلة اللبنانية عرضةٌ الآن لاختراقات وتداعيات لم تكن موجودة سابقاً، حتى في ذروة سنوات الحرب الأهلية (1975-1990).
الحرب الإعلامية والنفسية الشعواء التي تُشنّ على الأسرة أو العائلة اللبنانية اليوم أقوى من الحرب العسكرية أو الاقتصادية التي تعرضت لها في سنوات التأزم الأهلي.
وإذا قال البعض إنّها الأزمة الاقتصادية والمالية تخصيصاً، قلنا إنّ سنوات الحرب الأهلية شهدت من الأزمة تلك أصنافاً وأصنافاً، وومع ذلك لم تفقد الأسرة دورها أو فاعليتها الحاسمة في حياة الشريكين وأبنائهما، وبخاصة في تجنّب الانحراف على أنوعه.
ما الذي تغيّر إذن؟ وما الذي استجدّ من عناصر بدت أقوى من الأسرة؟
أولّ ما تغيّر هو العالم الأوسع! بعضُ ما استجدّ بل هيمن في عالمنا هذه اللحظة باختصار، أولاً المتغيّر المادي النفعي، الذي دخل منذ ثلاثة عقود، إذ حلّت مرحلة جديدة من الفردية القاتلة، والنفعية المطلقة، والأنانية الجشعة، وكسرِ المحرّمات  على أنواعها. وثانياً، المتغيّر التكنولوجي والإعلامي الذي اخترق غرف نوم أطفالنا فسحَرَهم بصورٍ خادعة، وفصَلهم عن واقعهم، عن أسرتهم، بل فصل الأخ عن أخيه، والأخت عن أختها (نتفليكس نموذجاً واحداً بين آلاف التطبيقات). تلاعبَ التطورُ التقني المجنون بعقل المراهق، وبالطفل في سريره، فانفصل عن واقعه، صار أقرب إلى الأوهام منه إلى الواقع؛ بات يعيش شخصية غير شخصيته، يقضي نهاره وليله مع أصحاب غير موجودين وتحت سيطرة مراكز تأثير وتوجيه شيطانية خبيثة.
بعد تفكك المجتمع، تحطّمت قوة العائلة الآن، النواة الصغرى التي كانت إلى وقت قريب الحضن الدّافئ لأفراد الأسرة وحصن الطفل الحصين على وجه الخصوص. انكسرت الآن صورة الوالد أمام أسرته، أمام أطفاله. لم يعد المثال لهم. بل ربما باتوا يخجلون به أمام رفاق وهميّين، وصور وهمية، يظنّون أنها حقيقية، فيعيشون أوهامها، ولا يجنون منها آخر الأمر غير التعاسة واليأس،وربما ما هو أخطر من ذلك. لم تعد الأم المثال لابنتها، وهذا أكثر خطورة. صارت قديمة، تقليدية، متأخرة: فهي لا تحمل في حقيبتها أحدث صرعات ال «أي فون»، ولا تصبغُ شعرها بثلاثة ألوان كما باربي، أو كما «الساحرات» التي تقدمها شاشات الموبايل والتطبيقات الخادعة.
ويزيد الطين بلّة في مجتمعنا وبلادنا نمط «المسؤول» الذي يراه أولادنا في وسائل الإعلام، فكثير من مواده خلاعي، فاسد، تكاد رائحته النتنة تخترق الشاشة إلى أنوفنا، أو طائفي مذهبي متزمت مُنفّر، أو غبي. والثلاثة تزيدُ في دفع أبنائنا بعيداً عن مجتمعهم وواقعهم، ويغدون أرضاً خصبة لكل شيطان خبيث متربصٍ بعائلاتنا وأولادنا الشرّ وينتظر الفرصة المؤاتية لينقض عليهم. 
حتى الكثير من المدارس تخلت عن واجباتها حيال أطفالنا: فهي إما فاشلة لا تعلّمهم ولا تربيهم ولا تثقفهم، أو هي ناجحة في تعليمهم العلوم واللغات، لكن من غير قاعدة أخلاقية أو وطنية، بل إن مدارس أجنبية معينة منتشرة لا تخفي تحريض طلابها للتمرّد على أسرهم وعلى قيم مجتمعهم الأخلاقية – تحت زعم العصرنة والحريات وتقليد ما يجري في قعر الجماعات الهامشية في الغرب.
هذه صورة بسيطة لمجمل الضغوط التي تحاصر الأسرة في لبنان الآن ، وربما في غير لبنان من بلدان المنطقة، لكنهم لا يتحدثون عنها بالصراحة التي نتقوم بها نحن. 
وفي السياق تفسه، انهيار أي نموذج عالمي للأخلاق، بل تسابق دول غربية مهيمنة إلى تقديم نماذج تعرفونها تماما: رؤساء وزراء، سفراء، وآخرون. 
ويبقى السؤال لبنانياً: أين الأسرة اللبنانية الشرقية من هذه الضغوط الشديدة؟  كيف تستطيع ثقافة الأسرة عندنا، ووعي أطرافها، مواجهة تواجه تحدي خسارة أبنائها اجتماعياً وثقافياً وأخلاقياً؟ وكيف تستطيع الأسرة في لبنان القيام بوظائفها وأعبائها والتمسك بقيمها فيما الأزمة الاقتصادية والمالية  لم تبقِ في أيدي الغالبية الساحقة من عائلاتنا الحد الأدنى من المقومات المادية، وتمثّل في غياب الدعم الرسمي أشكاله كافة؟ وفيما لم تعد معظم النخب السياسية والرسمية المثال الأخلاقي الذي يُحتذى؛ في دولة يظهر مسؤولوها دون خجل استقالتهم من كل مسؤولية!
باختصار: العائلة في لبنان تدفع الآن فاتورة الانهيار الأخلاقي الجاري، بعد الانهيار الاقتصادي والمالي والاجتماعي والسياسي. وربما الآتي أعظم!
--------------
* عميد سابق لمعهد العلوم الاجتماعية