بيروت - لبنان

اخر الأخبار

28 تشرين الثاني 2019 12:03ص محمّد بديع سربيه في ذكرى رحيله: مسيرة مناضل في مسيرة وطن

محمد بديع سربيه مع رئيس وزراء لبنان الراحل صائب سلام عندما منحه وسام الأرز اللبناني برتبة فارس محمد بديع سربيه مع رئيس وزراء لبنان الراحل صائب سلام عندما منحه وسام الأرز اللبناني برتبة فارس
حجم الخط
خمس وعشرون عاماً مضت من صفحات الزمن على رحيل الصحافي المعلّم محمد بديع سربيه، مساحات واسعة من البحر والنهر شكّلت تكوينه الإنساني والإعلامي وبصمته في كل مجال وكل نوع إعلامي مارسه بمحبة وإتقان..

هو أحد أقطاب مدرسة «كل شيء» و«الموعد» أيام مجدهما الذهبي، ومن خلالها قامت «كل شيء» و«الموعد» برحلات في كافة أقطار العالم العربي. «فكل شيء» انتهجت أسلوباً مغايراً لنهج مجلة «الموعد»، واتسمت مجلة «كل شيء» السياسية بالبساطة في ستينات القرن الماضي ولم يكتب (المعلم الراحل) إلا ما اقتنع به، ولم يمنعه أحد من كتابة المستور ولم يقترب من السلطة مثل غيره، ولم يستفد منها، لأنه كان منحازاً للناس أكثر، ولنبض الشارع وحركته (لا سيما الشارع العربي)!

ولم يبحث محمد بديع سربيه «الأستاذ» من مغنم شخصي ولم يكن يعرف كيف يتمّم ذلك.

وأغلب من اقترب من السلطة في تلك الحقبة السياسية الساخنة و.. الباردة فشل في مشروعه الإعلامي وأهدافه؟!

فأعظم الكتّاب العالميين هم الذين اقتربوا من أنفسهم وانحازوا للناس أكثر من السلطة، بل وقفوا ضدها في أحيان كثيرة.

الصحافة أعطت فقيدها الكبير محمد بديع سربيه روح المغامرة والمبادرة والمكاشفة والتدريب للوعي على الإلتقاء السريع لجوهر القضايا والتخلّص من «الأطناب» في الأسلوب، للمتتبّع لمسيرته في «كل شيء»، واستطاع بموهبته (وهي مرسوم من السماء)؟! الاعتماد على التركيز ورشاقة العبارة، فإن ذلك مما استفاد الأدب عن الصحافة ووعي الذات. فمثّل «ظاهرة» فريدة في الصحافة اللبنانية والعربية!


.. ومع فيروز وعاصي ومنصور الرحباني

محمد بديع سربيه...

سليل العائلة الاجتماعية البيروتية الخيّرة، ونهر الحبر الأسود.. يتدفق، ونور المعرفة يسطع على مرِّ الأزمنة والأجيال.

مقالاته وافتتاحياته في (بلاط صاحبة الجلالة) حملت تنبؤات للمستقبل في سطورها ومشاهدها وقناعاته الشخصية.

كان مؤمناً بأهمية العلم في حياة الشعوب. وهو له وجهة نظر في الكثير مما رسمه لفلذات أكباده: ندى والراحلة رانيا ومي ومنى ورندة، فراح يربط مسيرتهن الاجتماعية بالأخلاق والعلم، وثقافة التسامح.

هذه أوراق منسية لرجل عاش وعايش حياة عنوانها القسوة والمعاناة في (مشواره الصحفي) الشائك والشائق؟!

لم يحصد كغيره ثمار المعاناة فقط، جنى القسوة والأحزان بين ضلوعه... انحاز للمدرسة (الصحافية الواقعية) في النقد السياسي لأنها تعبّر عن هموم الجماهير؟!

لا.. بل انحاز إلى الجماهير المغلوب على أمرها... على حساب مبادئه.


.. ومع محمد عبدالوهاب

هو ابن «العاصمة» التي دفعته إلى التنقّل بين العديد من الاتجاهات السياسية الصريحة، ولم ينتمِ إلى أي تيّار سياسي، فاكتفى بالانتماء لأحلامه وطموحاته، فكان طاقة نور في النفق «المعتم»! التي جسّدت حياته القاسية لرجل اختار أن يسبح دائماً عكس كل (التيارات المزيفة)!

طوى العمر كلّه بالتغنّي بالكلمة والمواقف الشجاعة، أعطى حياته للناس والحبر وهدير المطابع! لتتوزَّع حيوات في أجيال عديدة. فكأن الموت عبر به عابر سبيل، إذ ان الموت في نظر محمد بديع سربيه «المعلم» لا ينتقص الحياة وان نقض الولادة.

طاف العالم العربي حاملاً هدايا المحبة والثقافة والتسامح، ولم يحلُ له عرش إلا عرش الكلمة.

بين قلّة الصحافيين الروّاد، عاش لقلمه وعاش من شقّ قلمه، وحارب الفساد والسياسي وملوك الطوائف (...) في كل كلمة كتبها، وحتى في كل موقف موقفه، قهر القرش ولم يستطع القرش قهره، فكأن «اللا» العامية في أرض المادة الزاحفة..

يعزُّ عليّ وقد عرفته منذ مطلع حياتي الصحافية معرفة عميقة وشفّافة أن أتكلم عنه، فالصمت أمام كلماته أبلغ من كل كلمة، لذا أنحني أمام ذكراه بكل صمت... وألوّح بشعر عمر أبو ريشة:

«قولي لهم سافر قولي لهم

إن له في كوكب موعداً»

محمد بديع سربيه..

سيرة مناضل.. ومسيرة وطن!..

تمرُّ علينا ذكرى رحيله الخامسة والعشرين، مع اننا لم ننساه منذ المواقف الوطنية في المعترك الصحافي.

فيلسوف (الكلمة الصحفية) غير مفصول عن واقعات الحياة، فيلسوف ذو طراز خاص من النّاس، ممتاز، تتقدّم لديه القيم الإنسانية فيوليها كل اعتبار ورعاية وعناية وموالاة..

لا يعرف فكره من إنسانيته، ولا الإنسان فيه بمعزل عن فريضة التفكير.

جانبان في حياته هما أهم وأجدر بالحديث عن سواهما، وان كانا هما حياته الخاصة والعامة، والإنسانية والتفكير.

محمد بديع سربيه في ذكرى غروب شمسه.. الصحافي الإنسان، أستاذ ألف باء الصحافة وأبجديته وصناعته.

بيروتي أصيل من مدينة العلماء والفقهاء والشعراء، هذّبته جدران (عاصمته السمحاء) يقول العلّامة الشيخ «راشد عليوان»! فأعطى منها وأبقى، وترك للعقل الصحفي ذخائر لا يمجّدها إلّا مكابر؟!

كان فقيد الصحافة قيمة كبرى للوعي، وقيمة كبرى للعقل، وقيمة كبرى للنقد والتنوير.

هذا الأستاذ الذي أخلص لرسالته الصحفية.. إخلاص الصادقين، وتحمّل تبعة الرسالة في شجاعة العارفين، وواحد من المجدّدين في الصحافة العربية. مرحلتان متمايزتان في إبداعه..

محمد بديع سربيع المعلّم بدأنا نسمع صداه بعد غيابه الذي سيطول..

هذا الصدى هو رفيقة دربه زوجته الأم المثالية. خرجت عن صمت الحداد لتتحوّل الحداد إلى العطاء والأمل بمشاركة فلذات أكبادها.

محمد بديع سربيه، أستاذي ومعلمي، كان «فلتة» يجب الرجوع إلى كتاباته كافة، المتنوّعة المواضيع والأحجام والتوجّهات، لنعرف من هو وأي كان!

مادته الغزيرة، سليقته الأدبية، حرارة ريشته، تدفّق معلوماته، جعلت منه نسيجاً وحده.

والآن أيها المعلم.. أنت على باب السماء وفي استقبالك وجوه تحبّها..

وجوه رحلت عنّا قبلك أمثال: عفيف الطيبي، وجوه تعلوها الدهشة لرحيلك الباكر.

لماذا تركت رفيقة العمر وحدها، زرعت لها وروداً في الصحافة.. أينعت ثمرات.. تركتها مع أغلى كنوز حياتنا؟!

كان شعاره: لا تقف أمام الماضي.. بل أمام المستقبل..

بعده.. توقفت الحقيقة عن النشر!

حتما لو كان حيّاً لما جبن.. ولكتب كعادته أسبوعياً «كل شيء»؟!

في حضرة الموت يقف الإنسان خاشعاً حزيناً مؤمناً بقضاء الله وقدره.

انه عملاق الابتسامة (وعرّاب الصحافة) تعالى على الألم ورسم الابتسامة، إنها (الابتسامة الأخيرة) التي كانت لا تفارق محياه.

يكبر اليراع، ألماً، وتسكت الكلمات وتعجز عن التعبير..

توفي أبواه وهو ناعم الأظفار.. فعاش اليتم باكراً فصقلته معاناته وجعلته يتكّل على نفسه في كل أمور الحياة.

فيا معلمي الكبير..

أنت الوهج.. الذي استعرته من زحل.