بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 تموز 2019 12:00ص مفهوم الثقافة بين الفرد والمجتمع

حجم الخط
 إن مفهوم الثقافة يربط بين طرفين متقابلين: الفرد والمجتمع لكل منهما دور في إنتاج الثقافة. والثقافة تهمّ الإنسان باعتباره فرداً له ميول وآراء وتهمّ المجتمع باعتباره مجموعة من البشر لهم حاجات ومطامح.

وقد استقرت في البلاد العربية فكرة هي الآن عند غيرنا في غاية الوضوح: شمول الثقافة للإنتاج الأدبي والفلسفي والعلي والفني واعتقادنا أنه لم يعد، في هذا العصر، إثمان لفهم الحياة الجديدة دون إطلاع أيضاً على فحوى الجهود البشرية في مختلف الإنتاج الفكري في الإقتصاد والعلوم وغيرها. بهذا الإعتبار، نستطيع أن نقول: إن الثقافة هي كيفية نظر الإنسان إلى الحياة وإلى العالم. وهذا المفهوم قريب جداً من مفهوم الحضارة، والحق أنه ليس بالإمكان دوماً الفصل بينهما إذ كلتاهما تهدف إلى إقرار سيطرة الإنسان على الطبيعة إما بالفكر وإما بالفكر واليد معاً.

فالثقافة هي جملة الإنتاج الذهني دون تمييز بين ما يُدوّن في الكتب وما يسجّل بوسائل أخرى كالرسم والنحت ولا بين ما يتصل بالعقل أو بالوجدان كالموسيقى والرقص. وبهذا الاعتبار ينتسب إلى الثقافة كل إنتاج يحمل وجهاً من وجوه القيم الإنسانية العليا سواء كانت عقلية أم روحية أم جمالية.

والثقافة تركّز على معنى الشمول: وهي أنها منبثقة عن الجماعة، وأنها تتجه دوماً إلى تجاوز تلك الجماعة والإنتشار في رقعة مرشحة للإتساع بصورة مستمرة. فالثقافة إذن خلق إجتماعي وتعبّر عن الجماعة. وأنها تنزع دوماً إلى مزيد من الإشعاع. ولما كانت الثقافة خلقاً فأنها لا تبقى حيّة إلا إذا تواصل هذا الخلق وتواصلت عملية انصهار العناصر الجديدة الطارئة دوماً دون أن يحدث انفصام في السيل الزمني. وبذلك تتصف الثقافة بالدوام برغم الكسب المتجدد باستمرار، كما يصحّ أن تنعت الثقافة بالعريقة رغم أنها مندفعة مع تيّار الزمان.

إن حياة المثقف وذي الإختصاص عندنا حياة مهدورة وتدور في فراغ. إذا أن أنهاك ذوي الثقافة والإختصاص لا يتركز في العمل لأهداف اجتماعية يعنون بها المجتمع بل بالسعي وراء لقمة العيش وتسوية مشاكلهم الفردية. إن الأمور تجري خارج إرادتهم. وأنهم لا حول لهم ولا قوة في تقرير أي شأن من شؤون المجتمع الأساسية. علينا أن نجابه هذه الحقيقة بعزيمة صادقة وتصميم، ليس لأنه بالمواجهة الصادقة فقط يمكننا تخطي ما هو شائع في الوقت الحاضر، بل لأنه بدون مجابهة كليّة ومستمرّة لن نستطيع أن نتجاوز ما هو كائن وعلى بناء مستقبل جديد. والردّ الشامل والعلمي للإنتهاء من هذا الوضع ينحصر بتحديد خطة واستراتيجية جديدة ونعيد النظر في وسائل عملنا. وقد أصبحت شروط هذه المراجعة في نظرنا ممكنة وتستدعي مناقشة الأسس التي قامت عليها الأوضاع السابقة وكيفية معالجتها وذلك يفترض رفض الأمر الواقع ويستنفر العقل ويعتمد عليه. وما من قدرة تستطيع أن تزيل مآسي حياة الإنسان المعاصر كقدرة العقل التي يعدّها الإنسان اليوم لتلعب دورها الخطير في سبيل إصلاح عالمه.

هذا مع الإشارة إلى أنه لم يعد ممكناً لبلدان الأمة الإبتعاد عن التداخل الدولي بصرف النظر عن الخلافات الظرفية والخصوصيات الدينية والثقافية. إن سرعة وسائل الإتصال المتطوّرة واختراقها الآفاق واختزال الأبعاد والمسافات ما يقلّص يوماً بعد يوم من العزلة ويزيد في التشابك العالمي السريع.

هذا من جهة، إلا أننا نلاحظ من جهة ثانية أن الغرب قلق على نفسه ما يؤدي إلى تقديمه لخطابين للعرب، خطاب يناشد الإنسان العربي أن يبقى كما هو، لأن الغرب في خضم فراغ رهيب، إذ يرى أن الوطن العربي لا يزال يكتنز معاني الروحانية والقيم السامية والأخلاق المثلى، وخطاب آخر يحضّ العربي عن الخروج من ذاته والإلتحاق بالتطوّرات المتسامية للوصول تالياً إلى التوافق التام مع مقاييس الغرب.

أما الردّ العربي فمزدوج. هناك التيار الذي يرفض التطوّر وتيار آخر يطمح إلى التغيير في وجه عام. على أن بعض الفئات الإجتماعية العربية، بقدر ما تريد تحديث تقنياته بالإستفادة من التقنيات الغربية، بقدر ما تريد الإلتزام بالثقافة المحلية. فالأصالة أيضاً تنتعش بالمعاصرة مع الإشارة إلى أنه في سبيل تقوية فلسفة التعايش، على كل طرف أن يُدرك منطق التاريخ الذي يقضي بأن الدول تدوّل وأن الأحوال تتغيّر وأن التعامل مع الآخر في زمن القوة ليس هو التعامل نفسه في زمن الضعف والوهن.