بيروت - لبنان

اخر الأخبار

21 تشرين الأول 2023 12:00ص من نداء نابوليون إلى فكرة بالمرستن

حجم الخط
يعزو البعض فكرة إنشاء إسرائيل عملياً الى وعد بلفور بناء على رسالة وزير خارجية بريطانيا العظمى ارثر بلفور والموجّهة الى اللورد ليونيل روتشيلد بتاريخ 2/11/1917.
لكن الأمر سابق للوعد المشؤوم الذي كان حجر الأساس في إنشاء الكيان الصهيوني على الأرض العربية في فلسطين.
قد يكون لبعض الأفكار الأوروبية المتأثرة بالفكرة اليهودية والتي تعود أصولها الى مرحلة الإصلاح الديني التي شهدت ظهور الحركة البروتستانتية بمذاهبها المختلفة بدءاً من القرن السادس عشر النقطة المركزية في تبلور فكرة إنشاء وطن قومي لليهود.
ومنذ نهاية القرن الثامن عشر أضحت تلك الأفكار تشكّل تياراً راسخاً في الثقافة الغربية الأوروبية، وما لبثت أن تحوّلت الى العمل السياسي، كما أنّه وبعد انتشار الأفكار الناتجة عن الثورة الفرنسية وما تركته من تأثير بالغ الأهمية في شتى أصقاع العالم، اقترح امبراطور فرنسا نابوليون بونابرت بشكل فعلي ولأول مرة إقامة دولة لليهود على أراضي فلسطين، وخاصة أنّ اتصالات كانت تجري بين زعماء يهود فرنسا والحكومة الفرنسية عشية استلامه السلطة، محورها خطة سرية من إعداد فرنسي في العام تقضي بإنشاء كومنولث يهودي في فلسطين حال نجاح الحملة الفرنسية على مصر والمشرق، في مقابل قيام المتموّلين اليهود بتقديم قروض مالية للحكومة الفرنسية التي كانت تمرّ في تلك الفترة بضائقة اقتصادية خانقة، كما كانت تقضي تلك الخطة بقيام المتموّلين اليهود أيضاً بتمويل الحملة الفرنسية المتجهة صوب الشرق بقيادة نابوليون بونابرت.
أبدى العديد من زعماء اليهود في فرنسا تجاوبهم مع المقترحات الفرنسية، وقد أدرك نابوليون بونابرت عشية توليه قيادة الحملة الفرنسية على مصر مقدار وقدرات الدعم اليهودي، خاصة من قبل يهود الشرق، فأصدر حين وصوله الى مصر في العام 1798 بياناً حثّ فيه جميع يهود آسيا وأفريقيا على الالتفاف حول رايته من أجل إعادة مجدهم الغابر وإعادة بناء مملكة القدس القديمة.
لكن حصار عكا في العام 1799، كان نقطة تحوّل في مسيرة حملة نابوليون في المشرق (حسب التعبير الجيوسياسي الفرنسي) فقد وجّه نداء آخر الى اليهود مطالباً إياهم بمؤازرته لاستعادة ما أسماه حقوقهم ووجودهم كأمّة مخاطبهم بعبارة «ورثة فلسطين الشرعيين».
ولعل غايته من طلب دعم اليهود يتلخّص بحاجته لدعم يهود المشرق لخوض الحرب معه، وكسب الدعم المادي من يهود فرنسا، كما لا يمكن إغفال التوجّه الفرنسي لتهديد المصالح البريطانية عبر خط التجارة الى الهند.
لكن هزيمة نابليون في حملته الفرنسية قضت على أحلامه التوسعية في المشرق وانتهى بالتالي مضمون ندائيْه الموجّهين الى اليهود، لكن اللافت أنّ نداء نابوليون لم يجد اهتماما لدى اليهود، الأمر الذي يؤكد أن فكرة الاستيطان على أرض فلسطين العربية لم تكن قد تبلورت بالشكل الذي تم في القرن التاسع عشر، خاصة وأنّ جلّ اهتمام اليهود كان منصباًّ على تعزيز مكانتهم الاقتصادية ووضعه الاجتماعي في البلاد التي يتواجدون على أراضيها.
بعد هزائم نابوليون في فرنسا وخاصة خسارته الحملة على روسيا القيصرية، انشغلت فرنسا بمشاكلها الداخلية، وانحصر اهتمامها لاحقاً بمناطق اعتبرت أنها تشكّل نقطة ارتكاز في مصالحها في المشرق وأهمها لبنان، مقابل اهتمام بريطاني بفلسطين ظهرت أهميته بعد حملة محمد علي باشا تجاه بلاد الشام وتوحيده مصر وبلاد الشام، حيث تبلورت فكرة الاستيطان اليهودي عبر وزير خارجية بريطانيا «بالمرستن» الذي رغب في الاستفادة من يهود أوروبا وحماية مصالح بريطانيا المتمثّلة بطرق التجارة تجاه الهند، فكانت فكرة إنشاء وطن لليهود على أرض فلسطين لمنع تهديد المصالح البريطانية وإقامة فاصل بين مصر وبلاد الشام يحمي تلك المصالح.
قد تكون هي لعنة الجغرافيا في هذا الشرق.

* كاتب - باحث