بيروت - لبنان

اخر الأخبار

7 تشرين الثاني 2019 12:04ص «ميشال إدَّه» حقٌّ كان بيننا فعسى أن لا يضيع حقَّنا في معنى وجوده

مع البطريرك الراعي يتسلّم وسام مار مارون مع البطريرك الراعي يتسلّم وسام مار مارون
حجم الخط
«ميشال إدِّه»، الإنسان الكبير والذَّواقة الرَّاقي للحياة وفنونها، والسِّياسي الواسع الاطِّلاع، والمسيحي الماروني الممعن في تعميق علاقته العضويَّة بالوجود الإسلاميِّ، والعربيِّ العامل بامتياز على استكشاف مناحي الأطماع الصّهيونيَّة في العالم العربيِّ؛ هو، أيضاً وأيضاً، صديق «المركز الثَّقافي الإسلامي»!

هناك، في رحاب «المركز الثقافي الإسلاميِّ»، وقبل أكثر من عشرين سنة من اليوم، التقيت به لأوَّل مرَّة في حياتي؛ وكان أن تشرَّفتُ، حينها، إذ سنحت لي فرصة التَّرحيب به من على منبر المركز، والتَّمهيد لتقديم محاضرة له في موضوع «الفكر الصهيوني»؛ وهكذا بدأت عندي معرفة مودَّة لشخصه واحترام لحضوره وسعي مستمر للغوصِ في أعماق وجوده الإنساني.

ما عاش «ميشال إدَّه» إلاَّ أنموذجاً فذَّاً، للغنى النَّفسي والثقافيِّ والاجتماعيِّ، لرُقيِّ البيئة الممعنة في ارستقراطيتها، ولكن الممتلئة بنعمة الخير الكامن في هذا الغنى؛ فلم يكن انغلاقيَّاً على الإطلاق، بل انفتح عقله ووجدانه على الجميع، حواراً وحِجاجاً، ودعماً دؤوباً لأساسيَّة التَّعاون الوطنيِّ بين جميع اللُّبنانيين. لم تتمكن شؤون الاقتتال الدَّامي، الذي عصف بلبنان، منذ منتصف سبعينات القرن المنصرم، أن تبعده عن السَّعي الدَّؤوب لتحقيق التَّعاون الوطنيِّ. ولم يخيفه الوجود العربيِّ، برمَّتهِ، من أن يكون أحد أبرز روَّاد الحوار الانفتاحي فيه؛ كما لم تعيقه الهيمنات الدوليَّة الكبرى، في رعايتها للكيان الصهيوني، من أن يعمل، بكلِّ طاقاته المعرفيَّة، على فضح النَّوايا الصهيونيَّة القائمة على خداع التَّاريخ والحاضر تأميناً منها لسلطة سياسيَّةٍ إجراميَّة على أرض الواقع.

ومع أعباء السِّياسة ودهاليزها المعتمة، ومع أهوال الشَّأن الاقتصادي ومزالقه المرعبة، ورغم الصعاب القابعة خلف كل واحدة من خطوات الإعلام ومراميه، فإن «ميشال إدَّه»، ظلَّ مصرَّاً على الاقبال المُحبِّ على الحياة؛ فعاش ذوَّاقة جمالٍ في الموسيقى والفنون التَّشكيليَّة، ومارس شغفه بصنع أطايب الأطعمة، ولم يحد، ولو للحظة، عن حسِّ الفكاهة الرَّاقي.

كَبُرتُ إذ كنتُ ألتقيهِ في مكتبه، في مبنى «السّوفيل»، يوم كان وزيراً للثقافة، ولم يكن للوزارة يومذاك إلاَّ مكتبه الذي تطوَّع به مقرَّاً لها. تعلَّمتُ منه سموَّ التَّفكير العلميِّ ورقيِّهِ الوطنيِّ، يوم كنتُ أباحثه في قضايا الجامعة اللبنانيَّة، وأزهو بما يكنُّه من رؤى لمستقبل عالميِّ زاهر لها. تعرَّفتُ في جلسات حِجاجِ فكريٍّ معه، على ملامح من الفكر العربيِّ الثقافيِّ، ازدادت بها معارفي غنىً وألقاً. أدركت، عبر استماعي لآرائه، كم يكون السِّياسي سخيفاً وفارغاً إذا لم يقر بحقيقةِ العدوَّ الصهيوني، بكل ما في هذه العداوة من كذب وافتراء وخداع ودجل ووهن وتسلُّط إعلاميٍّ عالميّ وظلم شاملٍ للإنسانيَّة واحتقار مرٍّ لناسِها. تدرَّبت على يديه، ولو لجلسات قليلة، كيف يمكن أن ينظر المرء في جماليَّات لوحة تشكيليَّة أو معزوفة موسيقيَّة أو حتَّى قطعة أثريَّة!

«ميشال إدَّه»، حقٌّ كان بيننا؛ فعسى أن لا يضيع حقَّنا في وجوده معنا فكراً نيِّراً ووعياً واسع الأرجاء، وذوقاً راقي الإحساس، وإنسانيَّة رحبة الأمداء صادقة الرؤية والرأي والرُّؤى.
 * رئيس المركز الثَّقافي الإسلامي