في حياة الأوطان وفي مسيرة التاريخ محطات هي في الواقع مفترقات مصير. ونحن اليوم في وطننا العربي الكبير أمام واحدة منها، ربما كانت من أشدّ مفترقات تاريخنا قلقا وخطورة. إذن نحن إزاء تحدّيات مصيرية تستوجب توحيد القوى الثقافية الى جانب القوى الأخرى في المجتمع للإفادة من كل طاقاتها بغية اجتياز الواقع الصعب، والتخطيط للغد المرتقب بالتوعية الثقافية، أي بالعقل والإبداع والريادة، أي بغير ما هو عليه الحاضر. وان أخطر ما في هذا الحاضر غربة المثقف في وطنه؛ لذا علينا قبل التطلّع الى دور المثقف في مجتمعه والارتفاع بإنسانه، وهو دور فاعل، أن نتوقف عند أحد العوائق التي تقف عائقا في وجه هذا الدور. والغربة هذه لها تحديدات عديدة، منها ما ينتاب المثقف من شعور بحالة نفسية حادة يشعر فيها بان طاقاته الفكرية والعلمية لا تستخدم إلا في مجالات ضيقة وان معظم أوقاته تدور في فراغ لانهماكه في أعمال لا تهدف الى النهوض بالمجتمع بل في السعي وراء قوته وقوت عياله. كما ان البعض من المثقفين يشعر بانه في حالة اغتراب لأن من حقه أن يحكم وأن يكون له وجود في الحياة العامة، ورأي في كل ما يُتخذ من قرارات لصالح مجتمعه وإنسانه نظرا الى مؤهلاته. لذا فان السمة الأساسية للمثقف المغترب في وطنه هي الخوف من عزلته النفسية – الاجتماعية. وهو يرى ان باستطاعته التأثير في الواقع وإعادة تشكيله من جديد.
ان التفاوت الاجتماعي – السياسي الذي يعانيه المثقف في الأنظمة القائمة يدفعه أحيانا الى التمرّد والثورة بغية تغيير النظام القائم واستبداله بنظام أكثر حرية وعدالة ومساواة؛ وهو ما عرفته المجتمعات البشرية في مراحل من تاريخها. من هذا المنطلق يعتبر المثقف الداعي الى التغيير الاجتماعي والسياسي في اتجاه تحديث بنية العلاقات الاجتماعية والنظام السياسي. وهنا يتجلّى دوره الأكبر: دور المثقف الحقيقي المناهض للظلم والاستبداد والداعي الى الحرية والمساواة والى العدل بمعنييه: القانوني والاجتماعي.
وأمام النكبات التي حلّت وتحلّ بالوطن والأمة بمؤسساتها ومجتمعها وإنسانها لا بد من الإشارة الى اننا لو كنا أخذنا بما يُقرره المثقفون الذين يتحلّون بأخلاقية الثقافة ومنعتها وأصالتها وسموّها لما كانت أحوالنا، ولا سيما السياسة منها، لتصل الى هذا الحد من التردّي. ولعلّنا في تواصلنا ونضالنا اليوم نسلك طريق التعاون الإيجابي المثمر ثقافة وإعلانا فنتخطّى الواقع المتردّي بحيث يصبح المثقف مؤثّرا في مجتمعه وتصبح السياسة محصنة في وجه المنزلقات، مسلّحة بالصدقية.
ان الجرأة هي الجسر الذي يعبره المثقف الى ضمير شعبه ليستمر فيه قائدا ورمزا ومرشدا يتجاوز التناقضات ويعمل على ضبطها وتوجيهها. انه بهذا يمثل الصورة الحيّة لما ينشده الشعب من تطوّر وتقدّم ومستقبل بمستوى أمانيه وطموحاته.
ان الثقافة العربية، وهي التي تعني جميع ما أنتجه الفكر العربي في مختلف مجالات المعرفة في الماضي والحاضر ، بلغتها الفصحى الأصلية والبليغة، هي أرض مشتركة وما زالت الأرض الأكثر صلابة بالنسبة الى العرب جميعا عبر التاريخ وامتداد الجغرافيا، مما يدعونا الى الاعتصام بها وبثوابتها ومقوّماتها وبدورها التوحيدي. انها المقوّم الأساس بل الوجه المضيء لعروبة الأقطار العربية وبالتالي للشخصية العربية، كما كانت على مدى تاريخنا قيمة كبرى في حياتنا. لذلك فان العمل الثقافي في مفهومنا هو أمانة تؤدّي قبل أن تكون وظيفة تمارس، وانه فريضة على كل مثقف عربي للقيام بدوره الرسالي شريطة أن تتوافر له عوامل الاستقرار المادي والنفسي والقوة المعنوية اللازمة في جو الحرية والاحترام والأمن والامان من جوع وخوف، وهذا الدور يتأتّى من خلال وظائف الثقافة وأهدافها وآثارها المتعددة وما أكثرها.