بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

6 أيلول 2019 12:06ص السيّد الخريف!

حجم الخط
قيلَ عن الخريف أنّه أكثر الفصول اعتدالاً ووقاراً. وحسْبُه، أنّ في هاتين الصفتيْن تكمُن الحكمةُ كلّها. أُضيفَ اسمُه إلى العمر، فقيلَ: خريفُ العمر. أي الوقوف في الوسَط ما بين نَزقِ الشباب (الصيف) وكآبة الشيخوخة (الشتاء)؛ بين الحرارة المرتفعة (للرؤوس) والبرد القارس (للأحاسيس).

إنّه الخريف إذن! انضباطُ الطبيعة في انفعالاتها. فلا هي فرحةٌ كل الفرح، ولا حزينةٌ كل الحزن. في وجهها مسحةُ من هذا، كلّما عزَف الحنينُ ألوان الغياب الجميل، ومسحةٌ من ذاك، كلّما مشَت حافيةَ الذكرى في درب التأمّل الطويل. هادئ هو كبحرٍ تصالحَ مع موجِه، ودافئٌ كأصفرٍ بسطَ خُصلَ يديه مقعداً لعاشقيْن عند ملتقىَ الحُضْن. إذا حدَّثَ، لا تسمعُ له إلا حفيفاً.

 إذا أقبلَ فاحَت نسائمُه أراجيحَ نعناعٍ في أرجاء النفوس، وإذا أدبرَ، أرخىَ وراءه شالاً طويلاً من المطر طرَّزته بتُؤَدَةٍ أصابعُ العطش الممدودة منذ صيف ونيّف. جاءَ الخريف يُفلفش الذكريات على شجر الأيام. يُرسل ألحانَه العارية من الوتَر إلى الأرواح المتمرِّدة. يوقظُ فيها غصون الصّمت، لتَطْرَح عنها غبارَ الكلام. ففي الخريف كلُّ شيء يتصالحُ مع كلِّ شيء. الليلُ مع النّهار، الريحُ الخفيفة مع أشعة الشمس، الطرقاتُ المفروشة بأثواب الشّفَق مع المتنزّهين المنفردين بغروبِهم، النّفسُ السّماوية مع الجّسد الأرضي، والدوران العظيمُ للأقدار مع الثّباتِ على حافّة أمنية. 

إنّه موسمُ الهِجْرات الغامِض: ملايين الطيور ترحلُ من الشّمال إلى الجنوب على أجنِحة الأسرار. والإنسان يسافرُ، بشوقِ الرّماد للنّار، على بساطِ الحكايات السندباديّ إلى جِهة القلْبِ، آتياً من صحراء العِناد العقليّ. يفتحُ الجدُّ الخريفُ رداءَه للأحفاد الصّغار. ينسلّون من سُباتِهم الياسَمينيِّ إلى جيبِه الضبابيّ، المُفعَم بحلوى الروح: أعوادُ الموسيقىَ المُذهّبة تتطايرُ بسخاءٍ على مسامِع الوجْدان، فيلحقُ بها فتيانُ الصَّدى على عجل، ويُرجعونها مع أسرابِ القبُلات المُنعِشة. يقفُ الخريف راضياً. يهزُّ كتفيه بإيماءةٍ سِحرية للجبل. يضحكان معاً. يُلقي سلاماً على نهرٍ جاءَ ليحمل على ظهره أوراقَ قصائِده. إنّه السيّدُ الخريف!


أخبار ذات صلة
أزمة وجود
20 نيسان 2024 أزمة وجود
ما حدا تعلّم!
17 نيسان 2024 ما حدا تعلّم!