بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

25 أيلول 2020 12:00ص ذُبالة الوطن!

حجم الخط
أستمعُ إلى الموسيقى. أختارها كلاسيكيةً وهادئةً. أسوّر نفسي بها تماماً. أتغطّى بدفق أنغامها العذْب. أريدُ أن أنسى الخارج. كلّ شيء شاذّ يدور هناك. لعليّ أجدُ وطناً بين ألحانها العالية فأستوطنُه. فالموسيقى تُحاكي النفوس وتستمعُ إلى شكواها. وهي لا تُغادرنا حتى لو غادرناها. 

وهي لا تغدر بنا مهما صنعنا بها. ويذهلني هذا الضرب اللذيذ على البيانو كيف يتفتّح وروداً في حديقة روحي المنسيّة. أرى البيانو طائراً عظيماً يأخذني فوق أجنحته الكثيرة إلى أحاسيس مهجورة في نفسي وإلى أفكارٍ هيْلَ عليها اليأسُ في رأسي. أسافرُ فيَّ. أتركُ نفسي لسفرٍ طويلٍ فوق أمواج موسيقى خفيفة وآمنة لا تقذفني إلى الموت. أنا حرٌّ وسط البحر. حرٌّ بأكثر ممّا تعرفُ النوارس. واليابسةُ بعيدةٌ جداً عنّي. وطني الآن طائرٌ يُغرّدُ الأفقَ الفسيح، لا يقفُ على يابسٍ من شيء. 

مواقفه ليّنة، طباعه رائقة، وأحواله متناغمة. لا سلطان لأحدٍ عليه، ولا سلطة له عليّ. قلبي يطفو فوق غمام أبيض يرقصُ الفالس مع الكوْن الضاحك. أُطلُّ منه على أحزان مدينتي المتّشحة بالسواد. وأرى طبولاً تدقّ الخرابَ فيها من جديد. أتمسّكُ بحبال الموسيقى ثانيةً. أخشى السقوط إلى الهاوية، إلى الجحيم القابع هناك بين أنياب الجميع البارزة. ها هي تلمعُ كجوهرة الفناء. أسمعُ لها شهيقاً يقطعُ أنفاس العزْفِ الجميل في مخيّلتي. أتقوقعُ في موسيقايَ كماردٍ في قمقم. فليُرمَ بي على الشطآن النائية للنغم الأبدي. ولتصعدْ كل هذه السلالم الشجيّة إليَّ كي أنزل عليها إلى آخر اللحن. فلعليّ ألقى فيه ذُبالة الوطن فأُشعلها من جديد.
أخبار ذات صلة