كان الفلاسفة قديماً يتجادلون حول حقيقة ما نراه وما نسمعه وما نلمسه؛ هل أنه فعلاً الواقع الخارجي بذاته أم شيء يتكوّن حصراً داخل عقولنا وأدمغتنا؟ اليوم هذه الأسئلة قد توارت خلف واقع جديد مصطنع يسمّى الميديا أو الإعلام. والكل يعلم تماماً كيف تحكمُ هذه الميديا عبر وسائطها المتعددة العالم أجمع. وكأننا أصبحنا نعيش داخل شبكتها العملاقة دون أن نقدرَ على الخروج منها.
نقول ذلك، وشهر رمضان المبارك يطرقُ أبواب أنفسنا، حاملاً معه كما في كل عام، بشائر الرحمة والغفران. إلا أنّ قليلاً من الفرحين بهذا الشهر الفضيل سيقف على عتبة روحه منتظراً ومحتسباً ولادةً له جديدة. في المقابل، سيدخل هذا الزائر الكريم بيوت الكثيرين، لكن ليس من باب القلب والسريرة أو حتى من أبواب العقل والتفكّر، بل عبر شاشات التلفاز المتصدّرة قلب الدار، ومن خلال البرامج الترفيهية والمسلسلات التي تكبّل الناس وتُسمّر عقولهم على مفاسد ومضار وخيالات لا نهاية لها. يتحول الجميع إلى مشاهدٍ لا يشهدُ على شيء، سوى على أرباح مالية للمنتجين وأصحاب التلفزيونات.
يبدأ رمضان عند البعض، والحال هكذا، مع الحلقة الأولى للمسلسل الفلاني على المحطة العلانية، وينتهي مع عرض الحلقة الأخيرة منه! وخلال شهر من الصيام ومجاهدة النفس عن شهواتها، يفوز الصائم- المشاهد، أسير رمضان الشاشات، بمعرفة الأحجيات التي انتظرها بفارغ الصبر: القاتل الغامض؛ والد الطفل الذي أنجبته الزوجة الخائنة؛ العشيقة السرّية للسياسي الفلاني؛ الشخص الذي اعتدى على قريبته وحملت منه سفاحاً.. الخ.
حتماً رمضان في مكان آخر. رمضان الحقيقي الذي نادراً ما تعرفه الشاشات أو يعنيها أمره. رمضان الذي ليس صفقةً تجاريةً لربح المال، بل صفقة روحية يعطي الإنسان فيها من ماله للفقراء والمحتاجين، ليفوز بها؛ ويُكتبَ صالحاً في شهادته الأخيرة!