بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

13 أيلول 2019 12:04ص لست هنا!

حجم الخط
منذ مدّة وأنا أطوّر حساسيةً مفرطةً تجاهَ الكلام. ما عادَ فيه شيءٌ يجذِبُني. ثمّة ضريبةٌ كبيرة دفعتها البشريةُ برأيي كي تكون ناطقة. ولَربّما اختراعُ الكتابة أنقذَ الكلامَ بعد أن كادَ يضمحل بفعل الرّتابة. يُقال عادةً أنّ الكلامَ وسيطٌ للتواصل. لكنّه وسيطٌ لا يصلُ إلاّ متأخراً جداً. 

كأن يُرسلُ إليك شخصٌ رسالةً، ولا يصلك بريدُها إلا بعدَ أن تكون قد حدَسْتَ بمضمونها. ما حاجتُنا إلى مثلِه إذن؟ تجلسُ قِبالة إمرأة في يومٍ ماطر وبارد. يخطِفك ليلُ شعرها وتصطادك نجومُ عينيها. تلتقطُ هي أنفاسَك المتقطّعة بابتسامة فجريّة. تخيطُ النظراتُ في الاتجاهين كنزةَ الشتاء. دافئاً الآن، تقولُ لنفسك: بُعْداً للكلام! أنتَ في نَدوة عن طريق الخطأ. ثمّة كلامٌ كثير يستوْلد الحقيقة. 

لكنّك لا تسمع بكاءَ المولود. أتولدُ الحقيقةُ صغيرةً مثلنا أم أنّها عجوزٌ شمطاء خرجَت مرّةً من رحِم التاريخ وتاهت؟ على الشرفة المُطلّة على اللاشيء (هل أبقوا لنا شيئاً؟) تغسلُ أذنيكَ بالصّمت العميق. تتجلّى لك الحقيقةُ ضباباً كثيفاً. ترمي بنفسِك في وسَطِه. غبطةٌ وقشعريرةٌ لا توصفان. الحقيقةُ هي أن لا ترى شيئاً. في الشارع بين المارّة أو على الكورنيش البحري صباحاً، ترىَ ولا تتكلّم. رياضةٌ إضافية تمنحُها لجسمِك. 

رياضة أن تسكت! في العمل تبحثُ عن زوايا الصّمت القليلة. تُكثرُ من الإيماءات والإشارات لتُبْعدَ عنك الكلام: هزّ الرأس، استعمال اليدين والأصابع، رفع الحواجب، تحريك الأنف أحياناً، والضّرب بالقدم على الأرض عند الطوارئ. ما حاجتك للكلام إذا كان كل شيءٍ فيك يتكلّم بصمت؟ هذا الأرخبيل الحسّ- حركي يطفو فوقَ كل كلام، فلماذا ترضىَ أن يغرقَ فيه، ويتوارى؟ هل الكلامُ من يجعل منا بشراً حقيقيين؟ أم أنّ إنسانيّتنا الدّفينة لا ترجِعُ إلينا، إلاّ عندما نضعُ جانباً سهامَنا المشدودة على أقواس الكلام، ونملأ جعبَتنا بالمشاعر الخَرْساء؟ حين تصيرُ الكلماتُ ضرباً من العزاء، أو حبالاً تُذكّرك أنك ما زلت هنا، فيما صمتُك يصرخ فيك: لست هنا!   


أخبار ذات صلة