في خضم هذا السجن القسري بسبب كسر قدمي على مدى خمسة أسابيع.. تنتشلني الميثالوجيا من أوجاعي.. آخذة بعقلي وتفكيري إلى محطّات مضت.. ومضت عليها ثلاثة وأربعون عاماً.. أشعر بها كأنّها حصلت للتو.. خاصة أنّها تمثّل لي قيمة وهدفاً وفرحة لمستقبل واعد.. وإنْ كانت في هذا الشهر غصّة حرقت قلبي.. فوالدتي توفيت في الثامن والعشرين من هذا الشهر.. وما أصعب أنْ يخسر المرء أمه وهي في ريعان شبابها..
أيضاً.. وأيضاً ما أجمل أنْ تكون في مؤتمر «الإعلام السياسي الموجّه»، الذي انعقد في العاصمة الليبية طرابلس يومَيْ 17 و18 شباط/فبراير 1976، وتُفاجأ بأيقونة التحرير داخلاً عليك وخلفه حبيب الله فجأة.. تأمّلته مندهشة قبل السلام.. فوجدتُ الزبد حول شفتيه.. بادرني بالسؤال: لماذا أنتٍ هنا؟ قلتُ: إنّه المؤتمر وأنتَ منذ عشرين يوماً لست على السمع.. ما بك؟ قال: اليوم ضُرِبَتْ «أم دريكة» بالنابالم والفوسفور الأبيض والضحايا والجرحى بالآلاف..
قلتُ: لنتغدّى، قال: اليوم عدتُ من رحلة «البيظان» أُخبرك عنها لاحقاً.. عليّ التوجّه إلى المطار توّاً وبرهومنا ذهب يُحضِر الحوائج.. ويذهب إلى المطار.. عودي إلى بيروت لفعل شيء ما..
وذهب وهو يردّد: «القوى العظمى ستأتي إلينا قريباً عندما يحمر منبع وادي الساق ومجراه».. لم أستطع تهدئة غضبه كالعادة.. لكنّني قلتُ له: أنتَ تفعل وما يشاء الله يحصل..
في الخامس والعشرين من الشهر رنَّ هاتفي في المكتب.. المتصل كان الدكتور محي الدين عميمور وبعد تحيته لي.. سمعتُ صوت تلك الهامّة قائلاً: أهلاً.. عليكِ الوصول إلى الجزائر بأسرع من البرق.. أريد أنْ تكوني هنا.. قلتُ: ومن أين أصل؟.. العواصف قطعت لبنان عن العالم.. المطار مقفل والطرقات مقفلة بسبب الثلوج والبحر أمواجه جبال.. برأيك كيف أصل.. قال: أريدك لتأخذي حقك التاريخي.. خذلتني.. أخذ الهاتف الدكتور عميمور.. وهو يردّد: هي لم تخذلك وإنما الجو خذلكما.. فعلاً كان يريدني أنْ أكون بجانبه عند إعلان الجمهورية.. حدث الإعلان وفرحتُ به.. وتأمّلتُ الحدث وترتيبه للبيت الداخلي لشعبه الذي أحبّه أكثر من أنْ يحب نفسه..
بوركت الولي في دنياك الثانية.. نعم احمرَّ منبع وادي الساق والمجرى والأميركان جاءوا يؤيّدون القضية.. ما أغلاك يا رفيق العمر القصير؟!