يحدث أحياناً أنه حين نكتب نغمّس كلماتنا من غير أن ندري بحبر من اليأس. مناضل كبير لفت نظري إلى هذه السقطة التي يقع فيها أمثالنا فوق معترك البياض. اذ ماذا يعني اليأس غير السقوط في براثن المجهول والإيحاء للذات وللآخرين بأن العزاء هو الفعل التواصلي الوحيد بيننا؟ هل على الكاتب أن يكون متفائلا قبل أن يتوجه إلى قرائه أو أن تكون لديه على الأقل رباطة جأش إزاء ما يغمر واقعه من خيبات؟ ربما ما قاله لي هذا المناضل العتيق صحيح.
فالمناضل لا يعرف اليأس أبداً بل يزداد صلابة مع الزمن. والمناضلون يصيرون أشبه بالحكماء. إذ ما الحكمة غير المثابرة على قول الحكمة وترديدها وسط الصمت أو في قلب الصخب؟ وإذا كانت الكلمة في الأصل استطلاعاً أدبياً وفكرياً لإمكانات التقدم فمن أين يتسرب اليأس إلى الكتابة إذاً؟ وكيف يمكننا أن نكتب ونمحو في آن واحد: نكتب الواقع كما هو ونمحو منه اليأس الأكثر لمعاناً فيه؟ قد يقول قائل بأن المشكلة في الطبقة السياسية الحاكمة. فشتّان ما بين المناضل والسياسي.
الأول يصنع الأمل مهما كانت المحن شديدة أما الثاني فيصنع الوهم الذي سرعان ما ينقلب عند الناس إلى يأس وإحباط مريرين. ولكن الناس واأسفاه يلتحقون بالسياسي الدّجال وينفضّون عن المناضل الصادق. يؤثرون الأماني المزيفة على الأمل الحقيقي. ويفضلون اللذة العابرة على النعيم الدائم. لا يأتينا اليأس من مكان بعيد إذاً.
إنها مرارة الحلوى نفسها التي يتهافت الكثيرون للحصول عليها بالوقوف الطويل على أبواب السياسيين. إنه مديح اليأس الحقيقي الذي تطرب له نفوس اعتادت أن تمدح بثمن وأن تهجو بثمن. كيف نجنّب الكتابة هذه الكأس المرة؟ أعترف بأنني لا أعرف. لكنني أعتقد بأن على الكتابة أن تحمل وزرها من الحالة الشعورية العامة في المجتمع. قد تسبق الكلمة الخطوة بالتأكيد، لكن في النفق الضيق والمظلم، تنظر الكلمة خلفها ملياً لترى من يتبعها حيث يجدر بها أن تذهب؛ ربما إلى ما وراء اليأس والأمل!