بيروت - لبنان

اخر الأخبار

حكايا الناس

10 كانون الثاني 2020 12:00ص نحرّك ذكراك بإصرار!

حجم الخط
يشطر الموتُ زمانك نصفيْن. وعلى حدِّ الفجيعة يتركُ لك كلمةً أخيرة. لا يسمعُها من تودّعه. كلمةٌ لم تكن لتُحسنَ في حضوره النُطقَ بها. فللغياب فصاحتُه الخاصّة. ما تقوله الآن تتركُه على ناصية الذكرى؛ كقلم في مهبّ الحبر المُتعَب. كانت تنقصك حروفٌ قليلة في أبجدية الوفاء والزمالة لتقول وداعاً. 

لكنّ القدرَ بعثرها على غفلة من الجميع. موتٌ على رؤوس أصابعه دخلَ جريدتنا الصامدة مجدداً، ورحل بالأستاذ عبد الرحمن سلام الذي سهر طويلاً من أجل الخبر، وها هو اليوم قد صار الخبر. كنت أقول له دائماً أنت «صندوق فرجة» الفنّ العربي الأصيل يا أستاذ، أرجوك أن تكتبَ مذكراتك مع الكبار، ولا ترميها للنسيان. عزائي أنني عرفت فيه الشيء الذي كان أكبر من الرحيل. 

كانت الابتساماتُ في عينيه وهو يحدثّني عن بعضها، جواباً عن إلحاحي عليه، كلما أبديت له اهتماماً بما يسردُه لي على عجل، من وقائع عن زمن فاتني سحرُه. زمن عبد الناصر.. وأم كلثوم وعبد الوهاب وعبد الحليم وفريد ونجاح سلام، وغيرهم كثير. إلحاحٌ كان يسكنني وما يزال كما يسكُن الجرحُ الجسد وينشر أوجاعه في كلّ مفاصله. 

وجعٌ على ذاكرة بيروت التي تتضاءل أمام أعيننا. ذاكرةُ مدينة محسودة في قافلة الرحيل التي لا تتوقف لجيل شهدَ عزّها الوطني، ومقاومتها العربية، ومنارتها الثقافية. وكان عبدالرحمن سلام واحداً من أولئك الذين عايشوا فروسية بيروت الماضي، ونهلوا من أخبارها الحلوة والمرة. وكان عروبياً. قال لي في آخر دردشة خاطفة تحت ضغط العمل المُضني: أُذكر عنّي أنّ مصر سوف تعود قويةً كما عرفناها نحن، وسمعتم عنها أنتم. 

لكنّ الحكايات التي سمعتُها منك أيها البيروتيّ العابق بأنفاس البحر وصخرة الروشة كثيرة، ربما هي بحجم أمنيتك الأخيرة لأرض الكنانة. لطالما وقفتَ بإصرار على حركات آخر الكلمات في «المانشيت» كي يُقرأ جيداً. وها نحن عند آخر حياتك المفعمة بالعطاء نحرّك ذكراك بإصرار كي تظلّ حيّاً!


أخبار ذات صلة