بيروت - لبنان

اخر الأخبار

31 آذار 2023 12:00ص 151 يوماً على الفراغ الرئاسي.. الأزمات تتناسل واللبنانيون يدفعون الثمن 2 /2

كيف كان مرشحو الرئاسة يرشحون مسلمين لإبعاد منافسيهم عن الكرسي الأولى

حجم الخط
 151  يوماً على الشغور الرئاسي في لبنان, من دون ان تلوح في الأفق أي بوادر بإنجاز هذا الاستحقاق قريبا,وبعد 11 جلسة انتخابية لم تسفرعن أي نتيجة, تستمر الحكومة الميقاتية الثالثة التي تعتبر مستقيلة منذ بدء ولاية مجلس نواب في 22 أيار 2022 الفائت في مهام تصريف الاعمال، وفي وقت يواصل الدولار الاعيبه وتحليقه, مترافقا مع ارتفاع جنوني في الأسعار وتدهور حياة الناس الاقتصادية والمعيشية والصحية والتربوية, وهو ما دعا  «المرصد الأوروبي للنزاهة في لبنان» لان يشير في بيان له «الى أن الإنهيار الذي تشهده الليرة مقابل الدولار الاميركي في بيروت كبير جداً ويستدعي التوقّف عنده»، مشددا على أن «المسؤولية الكبرى تقع على الحكومة وعلى حاكم مصرف لبنان رياض سلامة الملاحق في العديد من دول العالم بتهم الاختلاس وتبييض الاموال والاثراء غير المشروع والتزوير واستعمال المزور». 
بشكل عام يتواصل الشغور الرئاسي ويستمر عداد فراغ الكرسي الأولى بالتصاعد, بانتظارإشارة مرور خارجية, عبر توافق دولي, وإقليمي وتحديدا عربي, كان يطلق عليه فيما مضى «الوحي» الذي يحوله النواب في صندوقة الاقتراع باسم الرئيس العتيد, ولأن «كلمة السر» الحاسمة بشأن الانتخابات الرئاسية لم تصدر بعد, ليحولها نواب «الأمة «الى حقيقة في صندوقة الاقتراع الزجاجية,  سيتواصل عداد أيام الشغور في الكرسي الأولى بالتصاعد «حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا» و يدخل اليوم الـ151  على شغور الكرسي الأولى , ولبنان أمام استحقاقات دستورية هامة ابرزها الانتخابات البلدية والاختيارية التي تنتهي ولايتها في 31 أيار المقبل, مما يعني حسب قانون البلديات اننا نقترب من تاريخ دعوة الهيئات الناخبة التي يبدأ مفعولها في الأول من شهر نيسان, في وقت  تتواصل معه مرارات اللبنانيين التي باتت تطال كل تفاصيل حياتهم اليومية , وبات أي تفصيل سياسي أو تدبير اداري, مرشح الى مزيد من الانقسام والجدل الطائفي المجنون, على نحو ما شهدناه بشأن تأجيل اعتماد الدوام الصيفي حتى نهاية شهر رمضان المبارك, فقامت الدنيا ولم تقعد, بما يشير تماما الى أن قسما واسعا من طبقة السياسيين في لبنان لا يفقهون شيئا من تاريخ لبنان السياسي والاقتصادي والاجتماعي, وبهذا لا نستغرب كثيرا ما وصل اليه البلد من أزمات. 
لم يعد يختلف اثنان من خلال التجارب السياسية اللبنانية المريرة أن عيبا خلقيا في ولادة النظام السياسي الذي يقود اللبنانيين كل عقد أو عقد ونصف من الزمن الى أزمات قد نعرف كيف تبدأ لكن لا نعرف كيف تنتهي, لأن ما تنتهي اليه أي ازمة من تسوية تتضمن إصلاحات ما, لا ترى في غالب الأحيان النور, فالحكومة الاستقلالية الأولى برئاسة رياض الصلح في أيلول 1943 عكست روحية الميثاق الوطني واصلاحات ابرزها : ما جاء تحت عنوان « معالجة الطائفية والإقليمية» حيث جاء فيها:
 «ومن أسس الاصلاح التي تقتضيها مصلحة لبنان العليا معالجة الطائفية والقضاء على مساوئها فإن هذه القاعدة تقيد التقدم الوطني من جهة وتشوه سمعة لبنان من جهة أخرى فضلاً عن انها تسمم روح العلاقات بين الجماعات الروحية المتعددة التي يتألف منها الشعب اللبناني. وقد شهدنا كيف أن الطائفية كانت في معظم الأحيان أداة لكفالة المنافع الخاصة كما كانت أداة لإيهان الحياة الوطنية في لبنان ايهاناً يستفيد منه الأغيار. ونحن واثقون أنه متى غمر الشعب الشعور الوطني الذي يترعرع في ظل الاستقلال ونظام الحكم الشعبي يقبل بطمأنينة على الغاء النظام الطائفي المضعف للوطن».
   إن الساعة التي يمكن فيها إلغاء الطائفية هي ساعة يقظة وطنية شاملة مباركة في تاريخ لبنان. وسنسعى لكي تكون هذه الساعة قريبة بإذن الله. ومن الطبيعي أن تحقيق ذلك يحتاج إلى تمهيد واعداد في مختلف النواحي، وسنعمل جميعاً بالتعاون تمهيداً واعداداً حتى لا تبقى نفس إلا تطمئن كل الاطمئنان إلى تحقيق هذا الاصلاح القومي الخطير.
   وما يقال في القاعدة الطائفية يقال مثله في القاعدة الاقليمية التي إذا اشتدت تجعل من الوطن الواحد أوطاناً متعددة. 
   وتحت عنوان «تعديل قانون الانتخاب» جاء في بيان الحكومة الاستقلالية الأولى : «وترى الحكومة أن في قانون الانتخاب الحالي عيوباً لم تخف آثارها على أحد وكانت سبب شكاوى عديدة عادلة فهي لذلك ستتقدم قريباً من مجلسكم الكريم بتعديل قانون الانتخاب تعديلاً يضمن أن يأتي التمثيل الشعبي أصح وأكثر انطباقاً على رغبة اللبنانيين. وهي تعتقد أن في اصلاح هذا القانون سبيلاً لكفالة حقوق جميع أبناء الوطن دون تمييز بينهم».
وبقيت الوعود وعودا, وها أن اللبنانيين مازالوا ينتظرون ما تضمنه اتفاق الطائف من إصلاحات, لم تر النور بعد اكثر من 35 عاما من اقرارها, وباتت ابسط الأمور تتسبب بازمات حادة تهدد الوحدة الوطنية كحال «أزمة التوقيتين « الأخيرة.
ثمة حقيقة أخرى, وهي أن نهاية كل عهد رئاسي منذ 2007 صارت تهدد بفراغ وشغور, كما تهدد المصير الوطني, بيد أن هذه الازمة أو الأزمات ليست جديدة فهي كانت موجودة منذ زمن الانتداب الفرنسي واستمرت بعده, وكانت الانقسامات حول الرئيس البديل تحل بنوع من الذكاء ( إن جاز التعبير), من خلال اقدام قطب أو اقطاب أو مرشحون موارنة, على ترشيح شخصيات إسلامية للمركز الأول في البلاد, ومن الوقائع والأمثلة على ذلك: « في عام 1931، بدا مع الولاية المجددة لأول رئيس جمهورية شارل دباس (كانت الولاية لمدة 3 سنوات) تقترب من نهايتها، وكان واضحا ان المنافسة هي: بين بشارة الخوري واميل اده (حقائق لبنانية – ج 1 – بشارة الخوري)، وعندما اقتربت ولاية دباس من نهايتها بدأ الصراع لانتخاب لانتخاب خلف له، احتدمت المعركة بين بشارة الخوري واميل اده، ولكل منهما في المجلس النيابي وفي البلاد وبين رجال الانتداب انصار ومؤيدون، وكل منهما يطمح الى الرئاسة، فان لم يرافقه الحظ فلا بد من الأمل للحؤول دون فوز خصمه (50 سنة مع الناس – يوسف سالم -دار النهار). 
 وصارت المناورات الساسية جزءا من الوصول الى الحكم أو لابعاد المنافسين، وهنا كاد المسلم السني الشيخ محمد الجسر ان يصبح رئيسا للجمهورية خلفا للارثوذكسي شارل دباس، وفي التفاصيل كما يرويها يوسف سالم: «ادرك اميل اده ان لا امل له بالرئاسة، فهمس الى الشيخ الجسر رئيس مجلس النواب ان يرشح نفسه لها، ووعده بدعم ترشيحه واعطائه صوته وأصوات الذين يماشونه في المجلس، وكانت تلك المرة الأولى التي يترشح فيها مسلم لرئاسة الجمهورية اللبنانية، ومن المفارقات اللبنانية التي تبدو غريبة لمن يجهل تعاريج السياسة اللبنانية الداخلية، وتصارع الأحزاب أن كثيرين من النواب المسيحيين وفي مقدمهم اميل اده كانوا يؤيدون الشيخ الجسر، وأن كثيرين من النواب المسلمين دعموا ترشيح الشيخ بشارة، وبعد أن أدركت المفوضية الفرنسية العليا ان ترشيح الشيخ محمد الجسر، لم يكن مناورة سياسية منه أو من اميل اده، بل قضية جدية، بدأت تضغط على النواب لتأييد بشارة الخوري» (50 سنة مع الناس).
لم يستسلم الشيخ محمد الجسر، بل مضى في عزمه، على الرغم من الضغوط التي مارسها الانتداب الفرنسي ليحمله على الانسحاب، خصوصا بعد أن صار النواب المسلمون يشاهدون الحماسة لدى الجماهير الإسلامية لهذا الترشيح، وبالتالي صار الشيخ محمد الجسر مقتنعا بأن النواب المسلمين لا يملكون من أمرهم الا تاييده، لا سيما بعد ان لمس جديا مدى تأييد اميل اده وأكثرية النواب المسيحيين له (50 سنة مع الناس – مصدر سبق ذكره). 
بدوره، الرئيس شارل دباس حاول ان يوفق بينه وبين الشيخ الجسر، فلم يفلح، حيث قال الشيخ انه أقسم لمن يسانده من المسلمين وفي مقدمهم رياض الصلح ان لا يرجع عن ترشيحه ابدا، ومما قاله: « أن المفوض السامي رجل ضعيف، يمانع اليوم في ترشيحي ولكن إن نجحت أبرق الى حكومته مبررا موقفه ومبينا محاسن انتخابي» (50 سنة مع الناس).
يذكر ان الشيخ الجسر ونائب كسروان يوسف الخازن كانا قد طلبا قبل ظهر الرابع من أيار موعدا لمقابلة المفوض السامي الذي ما ان اطلا عليه حتى بادرهم بصوت عال جدا: «ماذا تريدون أن أقول للكيه دورسيه (وزارة الخارجية الفرنسية)، ان باريس غير مستعدة لقبول الاحتجاجات والانتقادات والشكايات من انتخاب رئيس جمهورية مسلم في لبنان.. انا لا اقدر.. لا هذا مستحيل». فكان ان اقدم المفوض السامي الفرنسي على حل مجلس النواب وتعليق الحياة الدستورية. 
وفي معركة الاستقلال, حين تقرر دعوة مجلس النواب للانعقاد الاثنين في 8 تشرين الثاني 1943 , لالغاء المواد الانتداب من الدستور, انحصرت جهود الفرنسيين  كلها بإقناع سبعة عشر نائباً من ثلاثة وخمسين يتألف منهم المجلس بأن يتغيبوا عن جلسة التعديل لأن غياب السبعة عشر يجعل العدد غير كاف لتعديل الدستور الذي يشترط لتعديله موافقة ثلثي أعضاء المجلس. واستعانوا بالنواب المعارضين المنتسبين إلى اميل إده ولكن أكثر هؤلاء لم يقبلوا. وقد كان هذا آخر سهم في جعبة الإقناع.
وفعلاً، اجتمع في مكتب اميل إده في اليوم السابق لجلسة التعديل اثنا عشر نائباً منهم: جورج زوين، جورج عقل، أسعد البستاني، جميل تلحوق، أمين السعد، احمد الحسيني، كمال جنبلاط، عبد الغني الخطيب، جبرايل المرّ، وديع الأشقر. وتلفن إده بعد حضورهم إلى مدير الأمن العام غوتييه يقول له: «إن الجماعة حضروا» فما لبث ان وصل وأعلن لهم ان المطلوب منهم ان يغيبوا عن جلسة الغد وإن خطته ان يقنع ستة آخرين ليحول دون اجتماع الأكثرية القانونية لتعديل الدستور فيحبط بذلك المشروع. ودارت مناقشة بينه وبين معظمهم، فإذا هم يرفضون الطلب ويبلغونه انهم سيحضرون الجلسة ويقرون التعديل برغم التهديد وبرغم قوله ان صداقة فرنسا وكرامة فرنسا وكيان فرنسا كل هذا معلق على حضورهم أو عدمه. وكانت خيبة مدير الأمن العام وصديقه الحميم إده فاجعة لهما. 
 وقبلها مع احتدام معركة انتخاب رئيس الجمهورية عام 1943, حاول الرئيس اميل إده أن يكرر التجربة مع الرئيس سامي الصلح، لكنها لم تنجح، وكما يروي الرئيس سامي الصلح نفسه، أن اميل إده حضر الى منزله بصحبة كتلته النيابية، «وطلب مني أن أرشح نفسي لرئاسة الجمهورية على أن أتفاهم مع رياض الصلح، للحال انعكست في مخيلتي السابقة التي حصلت مع الشيخ محمد الجسر بسبب الخلاف بين المرشحين المارونيين إده وبشارة الخوري».
يتابع الرئيس سامي الصلح، انه قال لإده: «أن أوضاع البلاد لا تسمح بذلك، وأن محاولة كهذه مصيرها الفشل» مؤكدا هنا انه «أما أنا، فلم أكن مقتنعا بجدوى مثل هذه الخطوة، فشكرته واعتذرت له عن عدم موافقتي على مشروعه» (سامي الصلح: لبنان - العبث السياسي والمصير المجهول، ص 101 - دار النهار).
 خلف بشارة الخوري على منصب رئيس الجمهورية عام 1952 كميل شمعون بفضل الدعم الإنكليزي ونظام أديب الشيشكلي في سورية الذي كان عونا لشمعون  على فريق من اللبنانيين , وإذ بكميل شمعون بين ليلة وضحاها يجتذب الى صفه عدد لا يستهان به من نواب الشمال من زملاء حميد فرنجية ونواب بيروت، بفضل الضغط السياسي من جانب سوريا وتدخّل السفير البريطاني في بيروت، وبدا ذلك واضحا للعيان بتحوّل أصدقاء حميد فرنجية وزملائه في جريدة «لوجور» من أمثال حبيب أبو شهلا، شارل حلو، هنري فرعون، وموسى دي فريج الذين كانوا من دعامته الكبرى وقادة معركته الذين تخلّوا عنه، ليس حبّا بشمعون بل تحت الضغط السافر الذي مارسه عليهم السفير البريطاني عبر ميشال شيحا. وهكذا بسحر ساحر انتقلت الأكثرية النيابية من حميد فرنجية الى كميل شمعون الذي انتخب رئيسا للجمهورية في 22 أيلول 1952، علما ان كل المؤشرات الداخلية كانت تشير الى أن حميد فرنجية هو الرئيس لكن «الوحي» الخارجي حل لمصلحة شمعون. 
الخلاصة العامة, ان ثمة هشاشة في النظام والياته نتيجة التردد في نزع الطائفية عن العمل السياسي، فهل سيكون مدخل نهاية أزمات لبنان تطبيق اصلاحات ضرورية تحدثت فيها الحكومية الاستقلالية الأولى, ووثيقة الوفاق الوطني التي اقرت في الطائف.