شكّل إقرار الحكومة لمشروع موازنة العام 2019 وإحالته إلى مجلس النواب، خطوة إيجابية، وإن نظرياً، نحو استعادة ثقة المجتمع الدولي ومؤسسات التصنيف، بالوضعين الاقتصادي والمالي. وعلى الأثر، أكدت «آي.اتش.اس ماركت»، أن تكلفة التأمين على دين لبنان لخمس سنوات، انخفضت 23 نقطة أساس إلى 847 نقطة أساس، بعد موافقة الحكومة على الموازنة.
لكن هذه الإيجابية قابلتها نظرة مغايرة، أبدتها وكالة «ستاندرد آند بورز غلوبال» للتصنيفات الائتمانية، والتي رأت أن «خطة موازنة لبنان لخفض عجزه المالي إلى 7.6 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي هذا العام، قد لا تكون كافية لاستعادة الثقة، التي تضررت في البلد المثقل بالديون.
موازنة لا تفي بالغرض
وبعد عقد مجلس الوزراء اللبناني حوالى 20 جلسة على مدار الأسابيع الثلاثة الماضية ، خصصت لمناقشة موازنة العام 2019، والتي تم خلالها اتخاذ تدابير صارمة، وافقت اخيراً على الميزانية التقشفية والإصلاحية.
كل الاجراءات التي اتخذت كانت بهدف خفض الإنفاق وزيادة الإيرادات، والوصول إلى خفض نسبة العجز لـ 7.5% من الناتج المحلي الإجمالي كما هو متوقع في ميزانية عام 2019» ، بانخفاض عن نسبة 11% التي تحققت بالفعل في عام 2018. الا ان موازنة لبنان للعام 2019 لا تفي بالتزام الحكومة السنوي الأول لمؤتمر «سيدر»، هذا ما خلص إليه تقرير «بنك عودة» الأخير الذي رأى أن الوفورات تدور بين الأرقام الفعلية لعام 2018 والأرقام المدرجة في الميزانية لعام 2019 حول خفض العجز البالغ 3000 مليار ليرة لبنانية (أي ما يعادل 2 مليار دولار أميركي). من بين هذه الارقام، ظهر 500 مليار ليرة لبنانية من خفض الإنفاق و 2500 مليار ليرة لبنانية تأتي من ارتفاع الإيرادات، مدفوعة بضرائب جديدة.
تدابير الإيرادات والإنفاق
تضمّنت ميزانية 2019 عددًا من تدابير الإيرادات والإنفاق. من بين أهم تدابير الإنفاق ، قرر مجلس الوزراء تجميد التوظيف في القطاع العام، ووضع سقف للبدلات والإيرادات الأخرى حتى لا تتجاوز 75% من الراتب الأساسي، ووضع سقف لعدد أشهر رواتب الموظفين العموميين في السنة (14 شهرًا)، ووضع سقف على رواتب القطاع العام حتى لا يتجاوز راتب الرئيس.
ومن بين أهم التدابير المتعلقة بالإيرادات، قرر مجلس الوزراء رفع الضريبة المفروضة على الفوائد من 7% إلى 10%، مما يجعل ضرائب الدخل أكثر تقدمًا إلى 25% سقفًا (بدلاً من 20% للموظفين و21% للمهن الحرة) ، ضريبة على الواردات بنسبة 2% (باستثناء المواد الصيدلانية) ، فرض ضريبة على غرف الفنادق، زيادة رسوم الأمن العام (رسوم جواز السفر، التأشيرات) ، رفع رسوم ترخيص العمل للعمال الأجانب وإلغاء الإعفاءات من الرسوم الجمركية ما عدا تلك الخاضعة للاتفاقيات الدولية.
نشاط المرفأ
كشفت أحدث الإحصاءات الصادرة عن مرفأ بيروت انخفاض سنوي في عائدات الميناء بنسبة 17.5% في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019 مقارنة بالفترة نفسها من العام السابق. وبلغت إيرادات الميناء 65.3 مليون دولار أميركي في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019.
في موازاة ذلك، سجل عدد الحاويات انخفاضًا سنويًا بلغ 10.0% ليصل إلى ما مجموعه 254.140 في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019. وسجل عدد السفن انخفاضًا بنسبة 8.9% على أساس سنوي ليصل إلى ما مجموعه 563 سفينة في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019.
وانخفضت ايضا كمية البضائع بنسبة 12.5% سنويا إلى 2350 ألف طن في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019، بعد انخفاض بنسبة 6.0% في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2018.
توسعت الشحنات بنسبة 6.9% على أساس سنوي لتصل إلى 144.462 حاوية في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019 ، بعد ارتفاع بنسبة 14.0% في الفترة المقابلة من عام 2018.
تراخيص البناء
وفقًا لأرقام نقابة المهندسين في بيروت وطرابلس، سجلت تصاريح البناء، وهي مؤشر لنشاط البناء المقبل ، انخفاضًا بنسبة 32.8% على أساس سنوي خلال الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019، وسط التباطؤ المستمر في القطاع حيث يتباطأ بعض المطورين أو يوقفون أعمال البناء في بعض الأحيان.
وبالنسبة إلى تفاصيل تصاريح البناء ، استمر جبل لبنان في الحصول على أعلى حصة في تصاريح البناء الصادرة حديثًا في الأشهر الأربعة الأولى من عام 2019 بنسبة 36.4%. تلاها شمال لبنان بنسبة 20.4%، جنوب لبنان بنسبة 19.3%، البقاع بنسبة 8.7%، النبطية بنسبة 7.7% ، وبيروت بنسبة 7.5%.
تجارة التجزئة
تواصَلَ التراجع في النشاط الاقتصادي خلال الفصل الأول من العام 2019، وشهدت حركة أسواق تجارة التجزئة تباطؤاً ملحوظاً، لا بل يمكن القول بأنه كان أسوأ من الفصول السابقة، بالرغم من أجواء سياسية مستقرّة بعد تشكيل الحكومة الجديدة وبدء أعمالها، ومع استقرار الحالة الأمنية والإمساك التام بالوضع الداخلي من قبل الجهات المختصة على إختلافها.
هذه النتيجة خلص إليها مؤشر جمعية تجار بيروت – فرنسَبنك لتجارة التجزئة للفصل الأول من سنة 2019، الذي أكد أيضاً عدم صدور أي إشارة لجهة إتخاذ تدابير إنقاذية واضحة للاقتصاد من قبل الحكومة، سوى إنكباب وزارة المالية على إعداد موازنة 2019 تجاوباً مع متطلـّـبات مؤتمر CEDRE.
وافتقدت الأسواق أيضاً عودة الزوّار، لاسيما الخليجيين منهم، لما لهم من ثقل تقليدي في الكثير من قطاعات الأسواق الاستهلاكية اللبنانية، وذلك بالرغم من التصريحات الرسمية برفع الحظر على قدومهم إلى لبنان. علاوة على غياب بوادر فعلية لرجوع النازحين إلى بلادهم وتخفيف وطأة تأثيرهم السلبي على الاقتصاد اللبناني.
القوة الشرائية
وفي السياق نفسه، ظلت الأسر اللبنانية، وفق المؤشر، تلحظ مزيداً من التراجع في قوّتها الشرائية، وزادت من حرصها على تقنين المصروف وإعطاء الأولوية للمواد المعيشية الأساسية. وظلّت المؤسسات تتقشّف في توظيفاتها لا بل إن بعضها باتت مرغمةً على التسريح من موظفيها. أضف إلى ذلك كلّه، تراجع كتلة تحويلات اللبنانيين من الخارج، الأمر الذي أدّى حتماً إلى مزيد من الانكماش في الإستهلاك.
إذاً، يبقى الوضع الاقتصادي المتأزّم هو المسؤول الأول والأساسي عن حالة التراجع الحاد التىي ظلّت تشهدها الأسواق في معظم قطاعاتها، لاسيما القطاعات المعيشية كالمواد الغذائية والحياتية الأساسية، التي لحقت بالقطاعات الأخرى كقطاعات الملابس والأجهزة المنزلية والأدوات الكهربائية وحتى المطاعم إلخ .. كيف لا ومحرّكات الإقتصاد كلها متوقّفة.