بيروت - لبنان

اخر الأخبار

16 حزيران 2020 01:11ص «الجوع أم السياسة».. من سَلَبَ «الثورة» استقامتها؟

حجم الخط

"طبول المجاعة تُقرع"، إنّها العبارة التي مهما حاولنا أن نداريَها أو نجمّلها تحت مسميّات البطالة، وانخفاض القدرة الشرائيّة، وارتفاع سعر الدولار، ستبقى هي هي، بخطورتها وبشاعتها وقساوتها.. تُنذرنا بالأسوأ.. إلّا إذا!

فمن منّا لم يرقب تلك الهجمة الممنهجة التي سادت خرابًا في وسط العاصمة بيروت، وفي الفيحاء طرابلس، منتقية المطاعم والمقاهي التي ما خلت يومًا من روّادها، بدعوى "الجوع".. من هنا تبرز إشكاليّة التحركات الأخيرة وتفرض نفسها على طاولة تطوّرات لا تهدأ.. وتساؤلات لا أجوبة قاطعة لها.. أبالجوع أم بالسياسة.. فقدت "الثورة" استقامتها سالكة مسار تخريب "جنى العُمر"؟

سياق ما جرى وضعه الخبير الاستراتيجيّ والعسكريّ العميد المتقاعد نزار عبد القادر، في إطار يعكس ازدواجيّة لدى "الثنائي الشيعي"، ساردًا في حديث إلى "اللواء"، كيف تدرّج الموقف من "الانتفاضة الشعبيّة" من الترحيب الذي لم يَطُل بداية، إلى اتّهامها بأنّها مخترقة ومأجورة للخارج، إلى الاحتكاك والاعتداء المباشر على المتظاهرين ليس في بيروت وحسب، بل في صور والنبطية وكفررمان وغيرها من المناطق.

أمّا الآن، فالشيء الملفت، وفق ما يؤكّد الخبير العسكريّ، أنّ الحكومة التي يسيطر عليها حزب الله وتشارك فيها حركة أمل، أظهرت نوعًا من العدائيّة المطلقة لعودة الانتفاضة إلى الشارع، لكنّه عاد بعد ساعات قليلة ليقول "نحن واحد وكلنا جائعون"، فكانت المقدمة لأحداث التخريب التي حصلت في وسط بيروت، موضحًا أنّ "هناك ضغينة موروثة على كلّ مشروع رفيق الحريري، وهم إن تظاهروا ضدّ الحكومة اليوم، فإنّ الأمر سيكون لتحقيق هدفين: انتزاع المزيد من المكاسب من رئيس الحكومة والسيطرة نهائيًا على إرادته، ومزيد من الترويض لعهد الرئيس ميشال عون"، وفق ما يؤكد العميد المتقاعد.

أمّا بالنسبة إلى أحداث التخريب في عاصمة الشمال، فأشار عبد القادر إلى محاولة مدّ التخريب من بيروت إلى طرابلس تحت أكثر من ستار ومظلّة، لافتًا إلى أنّ في المدينة هناك مجموعات تنتسب إلى "سرايا المقاومة"، وأخرى تأتمر بأمر المخابرات السوريّة، وأيضًا هناك بعض مجموعات الفوضويّة من نوع اليسار المتفلّت، فكلّ هذه المجموعات مجتمعة، استغلّت عودة الانتفاضة، وانطلقت في عمليات تخريب على أساس أنّها يمكن أن تمرّ من دون التعرّف إلى هويتها، ولكن القوى الأمنيّة مع كلّ الصور الموجودة لديها بإمكانها جلب عدد لا يستهان به من الأشخاص الذين ضُبطوا بعين الكاميرا، للاستفسار عن دوافعهم ومن حرّكهم ودفع لهم".

الخبير العسكريّ اعتبر أيضًا في حديث إلى "اللواء" أنّ كلّ ذلك يجري "ضمن جوّ عودة الانتفاضة وفشل الحكومة بالقيام بما وعدت به، وفشل القرارات التي كان يمكن أن تضبط تحركات الشارع، كمحاربة الفساد واستعادة الأموال المنهوبة واستقلاليّة القضاء. فكلّ ذلك الفشل والتردّي في الأرقام والخيارات يساهم في تعزيز نقمة الناس ودفعهم إلى القيام بشيء من العنف بوجه هذه الحكومة التي لم تستفد من الفرصة التي أُعطيت لها، فإن لم تستطع أن تُنفّذ أيًا من الوعود التي قطعتها خلال أكثر من 100 يوم، فأنت في الواقع مصنّف بأنّك "مقطوع اليدين"، لا تملك أيّ قدرة أو إرادة أو رؤية أو سلطة للقيام بأيّ عمل إصلاحي وفق ما تقتضيه الأوضاع المتدهورة في البلد".

بدوره، عبّر الخبير الاقتصاديّ جاسم عجّاقة في حديثه إلى "اللواء"، عن واقع الحال بعبارة لافتة قائلًا "عندما يجوع الإنسان، في علم الإجتماع، يمكن أن يلجأ إلى كلّ الوسائل، حتى أنّه سيكون قادرًا على ارتكاب جريمة، فالمجاعة مخيفة جدًا. لذا، يجب على الحكومة أن تتّخذ مجموعة من الإجراءات لمنع التدهور الحاصل".

إلّا أنّ عجّاقة استطرد مشكّكًا بمدى قدرة هذه الحكومة في أن تأخذ تلك الإجراءات، "في ظلّ عدم استطاعتها على التصرّف، والدليل أنّها وبعد مرور أكثر من مئة يوم على وجودها، لم تتّخذ أيّ تدبير لصالح مكافحة الجوع، لذلك فإنّ الأمور للأسف متّجهة نحو الأسوأ".

الخبير الاقتصاديّ أوضح أنّ "85% من المواد الغذائيّة المستهلكة في لبنان مستوردة، وبالتالي فإنّ تأثير ارتفاع الدولار على هذه المواد مباشر وبشكل تلقائيّ وفوريّ. في وقت أنّ التجار حتى وإن اشتروا المواد على سعر دولار متدنٍ، إلّا أنّهم يبيعون بحسب سعر السوق، وهذا أمر مخالف للمرسوم الاشتراعي 73/83".

أضاف "بالتالي، فإنّ القدرة الشرائيّة للمواطن اللبنانيّ تتآكل، حتى وصلت اليوم إلى نسبة ما بين 50 إلى 60%، وإن استمرّت الأمور على ما هي عليه من الممكن أن نصل إلى مستويات أسوء"، مشددًا على أنّ "تدهور القدرة الشرائيّة ستنعكس انخفاضًا في استهلاك المواد، كما أنّه من المعروف في النظريّة الاقتصاديّة، أنّ المواطن عندما يقع في ضائقة ماليّة يُلغي الكماليّات ويُركّز على الأساسيّات، التي على رأسها المواد الغذائيّة".

لذلك، يُضيف عجّاقة، "إذا استمرت الأمور على هذا المنوال، خصوصًا بما يخصّ الضغط على الدولار، الذي يعتبر سعره اليوم سعرًا سياسيًا، يأتي نتيجة عوامل عدّة منها التخبّط الداخلي، وأيضًا الضغوطات الأميركيّة على سوريا ولبنان من خلال قانون "قيصر"، فإذا استمرّ الدولار بالارتفاع فإنّ القدرة الشرائيّة ستتآكل أكثر فأكثر، وكلّما ارتفعت أسعار المواد الغذائيّة كلّما زاد خطر المجاعة، وبالتالي النزول إلى الطرقات".

إذًا.. هي علاقة متلازمة تلك التي تربط الجوع بـ "ثورة العنف"، ولكن يبقى الوضع اللبنانيّ بتشابك قواه السياسيّة والاقتصاديّة والاجتماعيّة، نموذجًا يتميّز بتداخلاته الفريدة من نوعها، التي تفرض بدورها علاقة تبقى هي الأخرى أسيرة مصالح الأحزاب التي تطيح بكلّ ما قد يهدّد عرش سلطتها، فتصبح المعادلة كالآتي: جوع.. فقر.. استغلال.. سياسة!