لا يكاد العالم المتقلّب على "صفيح ساخن"
ينجو من فوّهة حرب هنا، حتّى يسقط فيها هناك. فدول الأرض باتت أشبه بكرة نار
مستعرّة تلتهم الواحدة منها الأخرى عند كلّ فرصة أو زلّة، فعمّت الأزمات وتزاحمت
المعارك لترمي بشعوب الدنيا على فوّهة بركان نشط مرعب ثورانه.
فبين ليلة وضحاها، انضمّت كلّ من أذربيجان وأرمينيا
إلى قائمة الدول المشتعلة بنيران الحرب، عندما اندلعت اشتباكات، أمس الأحد، بين
قوات البلدين، في ظلّ تقاذف المسؤوليّة حول "من أطلق الرصاصة الأولى".
إلّا أنّ الحرب الفجائيّة لم تكن وليدة الساعة، بل
جاءت بعد عقود ضغينة راسخة، وتاريخ حافل بالمناوشات الباردة والساخنة على حدّ
سواء، على خلفيّة اختلافات تاريخيّة خطيرة حول قضايا تشمل الدين، والعرق، والسياسة
بالطبع. إذ تتمتّع أذربيجان بغالبيةٍ مُسلمة مع وجود تركي مُكثّف، في حين تُعَدُّ
أرمينيا دولة ذات غالبية مسيحيّة يسكُنها أبناء العرق الأرمنيّ بشكلٍ أساسي.
فما الذي حدث ويحدث بين الدولتين السوفيتيتين
السابقتين؟ وماذا نعرف عن إقليم "قره باغ" المتنازع عليه بين البلدين؟
يعتبر إقليم "قره باغ" أو "ناغورنو
كاراباخ" في محور العلاقات المتوترة بين يريفان وباكو. إذ ألحقت
السلطات السوفيتيّة هذا الجيب الذي تسكنه أغلبيّة أرمينيّة بأذربيجان
عام 1921، لكنّه أعلن استقلاله عام 1991 بدعم من أرمينيا، رغم أنّه غير معترف به.
تعني كلمة "ناغورنو" باللغة الروسية "مرتفعات"،
بينما تعني "كراباخ" الحديقة السوداء باللغة الآذريّة. بينما يفضل أبناء عرقيّة
الأرمن استخدام الاسم الأرمينيّ القديم للمنطقة "أرتساخ".
جذور الصراع
تعود جذور الصراع إلى أكثر من قرن مضى، حين كانت المنطقة
مسرحًا للتنافس على النفوذ بين المسحيين الأرمن والمسلمين الترك والفرس، ولا تزال بعض
أعمال العنف الوحشيّة بين الجانبين في أوائل القرن العشرين، عالقة في ذاكرة
أبنائها.
في آخر سنوات السلطنة العثمانيّة نشب نزاعٌ عرقيّ
بين البلدين، بخاصة داخل مناطق القوقاز وبعض أجزاء شرق الأناضول، على أراضي
المناطق المذكورة بشكلٍ أساسيّ.
إبان الحرب العالميّة الأولى، حاول الأرمن،
المدعومون من روسيا وبعض الدول الغربيّة البارزة، طرد المسلمين من القوقاز وشرق
الأناضول، أملًا في إنشاء دولةٍ مُستقلة، وأدّى ذلك إلى مواجهة مُسلّحة بين
العثمانيين والأرمن.
بعد نهاية الحرب العالميّة الأولى والثورة البلشفيّة
في روسيا، أسّس النظام السوفيتي الجديد وقتها، منطقة حكم ذاتيّ في "قره
باغ" أو "ناغورنو كاراباخ" تسكنها أغلبيّة أرمينيّة، داخل حدود
جمهورية أذربيجان السوفيتيّة السابقة في أوائل عشرينيات القرن الماضي، ممّا نثر بذور النزاعات
المستقبليّة.
مع تراجع القبضة السوفيتيّة في أواخر ثمانينات القرن
الماضي، تطوّرت الخلافات بين الأرمن والأذريين إلى أعمال عنف، بعد تصويت برلمان
المنطقة لصالح الانضمام إلى أرمينيا، وانتزع الأرمن السيطرة على الإقليم، ثمّ
سعت إلى احتلال منطقة متاخمة ضمن أراضي أذربيجان، لعمل منطقة منزوعة السلاح تربط
بين "قره باغ" وأرمينيا.
أواخر عام 1991، ومع انهيار الاتحاد السوفيتي، أعلن
الإقليم نفسه جمهوريّة مستقلة، مما أدى إلى تصاعد الصراع إلى حرب شاملة. فيما لم يتمّ
الاعتراف بدولة "الأمر الواقع" من الخارج، حتّى من جانب أرمينيا ذاتها، إلّا أنّها ظلت
الداعم الماليّ والعسكريّ الرئيسيّ للإقليم.
هدنة متزعزعة
عام 1994، انتهت هذه الحرب الدمويّة التي أدّت إلى
مقتل 30 ألف شخص، ونزوح أكثر من مليون شخص، بهدنة، وقيام وساطة روسيّة
أميركيّة فرنسيّة تحت اسم "مجموعة مينسك"، إلّا أنّها فشلت في أن تقود للتوصل
إلى معاهدة سلام دائم حتى اللحظة، حيث لا يزال هذا النزاع واحدًا من
"الصراعات المجمدة" لما بعد الحقبة السوفيتيّة .
منذ التوصل للهدنة، تسير الأمور في طريق مسدود ما
بين الأذريين الذين يشعرون بالمرارة لخسارتهم أرضًا يرونها حقًا لهم، والأرمن
الذين لا يبدون أيّ استعداد للتخلي عنها.
خروقات للهدنة
خلال الاستفتاء الذي أجراه الإقليم في كانون الأول/ ديسمبر
2006 واعتبرته أذربيجان غير شرعيّ، أقرّت المنطقة دستورًا جديدًا.
حمل عام 2009، تقدمًا ملحوظًا من خلال المحادثات بين
البلدين، عام 2009، إلا أنّه لم يستمر، حيث وقعت منذ ذلك الحين انتهاكات عدة خطيرة
للهدنة، كان من أبرزها مقتل عشرات الجنود من الجانبين في أعمال عدائيّة متبادلة في
نيسان/ إبريل 2016، إلى أن
أُعلنت حالة الحرب، أمس الأحد، إثر اندلاع اشتباكات
بين قوات أذربيجان وأرمينيا، أدّت إلى سقوط عشرات القتلى والجرحى، وسط دعوات
دوليّة إلى وقف فوريّ لإطلاق النار.
على وقع هذه الأوضاع المتأرجحة سلمًا وحربًا بين
أذربيجان وأرمينيا على حلبة "قره باغ"، يبقى مصير هذا النزاع المشتعل
بفعل صفحات الماضي البعيد، رهينة المستقبل المفتوح على احتمالات السيئ والأسوأ،
بين إعادة ترقيع الهدنة المخروقة تاريخيًا، أو تشريع أبواب حرب شاملة تُضاف إلى
سجلّ النزيف العالميّ!