بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

17 نيسان 2019 12:07م إغلاق فجوة الثقة في أوروبا

حجم الخط

مدريد ــ في اللغة الإسبانية، تحمل كلمة "confianza" معنيين. فهي من ناحية تصف ثقة راسخة في شيء أو شخص ما ــ ذلك النوع من الثقة في الزعماء بل وحتى أنظمة الحكم، الذي يفتقر إليه الناس في مختلف أنحاء العالم، من البرازيل إلى الولايات المتحدة إلى شمال أفريقيا. ومن ناحية أخرى، تشير الكلمة إلى الثقة بالنفس ــ وهو أمر تفتقده أوروبا بشكل خاص.

الواقع أن الاتحاد الأوروبي يعاني من عجز الثقة بالمعنيين. وهو خليط بالغ الخطورة، لأن الافتقار إلى الثقة والثقة بالنفس يقود الاتحاد الأوروبي ليس فقط إلى مزاولة السياسة من قِبَل أغراب غير مؤهلين وحتى من قِبَل ساسة خارجين على القانون، بل ويفضي أيضا إلى الشلل السياسي، والغضب الشعبي، والعجز التام عن تقرير مصيره. ومن الواضح أن هذا العجز يستلزم التحرك العاجل قبل وبعد انتخابات البرلمان الأوروبي في الشهر المقبل ــ والتي ستسبق انتخاب المفوضية الأوروبية الجديدة ورئيس المجلس الأوروبي الجديد.

تلقت الثقة في قادة الاتحاد الأوروبي ومؤسساته ضربة مؤلمة بعد الأزمة المالية في عام 2008. بحلول ذلك الوقت، كان الغرض الأصلي من المشروع الأوروبي ــ دعم السلام في القارة بعد الدمار الذي خلفته الحرب العالمية الثانية ــ فَقَدَ جاذبيته لدى الرأي العام. لقد اعتاد الأوروبيون على السلام. ولكن في الوقت ذاته، أصبحت "أوروبا" تركز على الهدف الأعرض ــ والأقل وضوحا ــ المتمثل في الدفاع عن "القيم المشتركة". وكان هذا الهدف يشكل الأساس الذي قامت عليه مؤسسات الاتحاد الأوروبي الرسمية.

ولكن من منظور الناخبين، لم تكن الأفكار السامية والمثل العليا هي الهدف. فقد حققت أوروبا السلام من خلال الرخاء؛ فكانت العلاقات الاقتصادية التي تعود فوائدها بشكل متبادل على الجميع المفتاح لردع الصراع. ولكن مع اضمحلال ذاكرة الحرب، أصبحت الوسائل هي الغايات، وأصبح تحقيق الازدهار هو الأمر الوحيد المهم.

لذا، عندما انهارت الأسواق في عام 2008، واجتاحت أوروبا سلسلة من الأزمات (التي تفاقمت بفِعل بنية أوروبا المعمارية المعيبة)، فقدت جماهير الناس الثقة في قابلية المشروع الأوروبي للتطبيق، ناهيك عن كونه مرغوبا. وازدادت حدة الشكوك مع تسبب اتجاهات أخرى ــ بما في ذلك العولمة، والأتمتة، والهيمنة الناشئة من قِبَل شركات التكنولوجيا الضخمة ــ في تحويل الاقتصادات والمجتمعات، على النحو الذي أدى إلى نشوء مصادر جديدة لانعدام الأمان.

وأصبحت الاقتصادات أعرض كثيرا من المجتمعات، مما جعلها تفتقر إلى الأسس الاجتماعية الراسخة من الماضي. ومع إضافة توسع الدولة التنظيمية، شعر المواطنون بخسارة ملموسة لقوتهم.

تسببت حالة عدم اليقين الناتجة عن ذلك في إشاعة الخوف والإحباط، مما أدى إلى تأجيج الغضب الشعبي ليس فقط بسبب العيوب التي تشوب النظام، بل وأيضا إزاء النظام ذاته ــ و"النخب" التي فرضته. وبمساعدة ساسة انتهازيين، أصبحت الأحزاب السياسية الرئيسية العدو، وفقد الخبراء مصداقيتهم. وباتت الحقيقة ذاتها هدفا للهجوم.

لابد أن تكون الاستجابة الفعّالة لهذا التحدي واسعة ومتعددة الطبقات وقوية. وفي الدول الأوروبية ــ والديمقراطيات الغربية في عموم الأمر ــ تتطلب هذه الاستجابة قادة سياسيين قادرين على الانخراط بشكل أعمق مع المواطنين، جنبا إلى جنب مع الجهود المبذولة لبناء المرونة المجتمعية. وعلى المستوى الأوروبي، يتطلب الأمر أيضا تطوير عِلة وجود واضحة تمتد إلى ما وراء الرخاء والازدهار. لكن هذا يعني أيضا بناء ترتيب مؤسسي أكثر فعالية وموجه نحو النتائج.

كان الاتحاد الأوروبي مسعى مشترك بين حكومات عِدة، وليس مسعى عابرا للحدود الوطنية، منذ اندلاع الأزمة المالية على الأقل. تقع المسؤولية عن وضع الأجندات واتخاذ القرار على عاتق الحكومات الوطنية، والمفترض بحكم الأمر الواقع أن تهيمن على هذه العمليات الدول الأعضاء القوية، وخاصة ألمانيا، والدول المتمردة مثل المجر وبولندا.

خلال الأزمة المالية، كان الأوروبيون يتطلعون إلى المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، وليس رئيس المفوضية الأوروبية آنذاك خوسيه مانويل باروسو ، طلبا للحل. وعلى الرغم من إعلان جان كلود يونكر، خليفة باروسو، أن المفوضية تشكل "الفرصة الأخيرة" لاستعادة دعم المواطنين، فقد هيمنت ميركل أيضا على عملية اتخاذ القرار خلال السنوات الخمس الأخيرة. ويتجلى هذا في قضية الهجرة، حيث كانت القرارات المؤثرة على الاتحاد الأوروبي ككل، بما في ذلك اتفاق الكتلة مع تركيا، تتخذ على نحو متكرر في برلين دون أي تشاور يُذكَر. هذا هو الواقع.

ومع ذلك، سعى البرلمان الأوروبي والمفوضية الأوروبية إلى زيادة صلاحياتهما. هذه هي الطريقة الخاطئة لاكتساب مكانة مركزية حقيقية في عملية صنع السياسات. وبدلا من محاولة موازنة قوة الدول الأعضاء عن طريق توسيع صلاحياتها، ينبغي لهذه المؤسسات أن تركز على الميزة النسبية.

بالنسبة للبرلمان الأوروبي، قد يعني هذا ترسيخ ذاته كمصدر للحقائق والأفكار والرؤى بدلا من كونه مشرعا مشاركا، نظرا لانعدام الرغبة في تسليم السيادة حتى في ما يتصل بالقضايا الأكثر عملية. وفي وقت يتسم بالتضليل والارتباك، يستطيع البرلمان أن يعمل على إجراء دراسات جديرة بالثقة ونشر بحوث رسمية يمكن التعويل عليها، مثلما يفعل مجلس اللوردات في المملكة المتحدة.

في حالة المفوضية الأوروبية، لابد أن يكون الهدف تعزيز قوتها كمؤسسة حامية لروح ورؤية المعاهدات الأوروبية، وفي الوقت ذاته تحمل المسؤولية عن التنفيذ اللائق للسياسات، ويتطلب هذا أن تكف المفوضية عن محاولة إثبات كونها قبطان السفينة عند كل فرصة. وكما أظهرت السنوات الأخيرة، لن تتمكن المفوضية في غياب المشاركة السياسية من متابعة أي مسار ترسمه، سواء في ما يتصل بالهجرة، أو استقلال الطاقة، أو الدفاع. وهذا الفشل كفيل بتقويض مصداقية الاتحاد الأوروبي، في حين يهدر الوقت والموارد.

أما عن المجلس الأوروبي، فيجب أن يعمل كمجموعة إدارية ذات أهداف مشتركة وليس كمكبر صوت لوجهات نظر عواصم بعينها في تحديد الاتجاه. وهنا يشكل دور ومسؤولية الرئيس المقبل للمجلس، الذي سيحدد الاتجاه العام، أهمية بالغة.

من خلال التركيز على إعادة بناء الثقة في هيئتيها، يصبح بوسع المفوضية والبرلمان والمجلس العمل على تعزيز شرعية الاتحاد الأوروبي وتيسير التقدم في مجالات أساسية، مثل توطيد اليورو واستكمال السوق الموحدة والاتحاد المصرفي. وسوف يكون الاتحاد الأوروبي في هيئته الجديدة هذه أقوى وأفضل تجهيزا للدفاع عن المصالح والقيم الأوروبية على الساحة العالمية، مما يعزز من ثقة عامة الناس.

ولكن إذا فشلت مؤسسات الاتحاد الأوروبي في إظهار التواضع المطلوب والرؤية الثاقبة، فلن تنشأ أي من هذه الحلقات الحميدة. وربما تواصل السفينة الأوروبية انجرافها بلا هدف؛ والأسوأ من ذلك أن الماء قد يتسرب إليها إلى أن تغرق في نهاية المطاف. وفي البحار الهائجة العاصفة حيث تحتد المنافسة بين القوى العظمى، ربما يحدث هذا بسرعة أكبر مما قد يدرك قادة الاتحاد الأوروبي.

المصدر: PS، موقع "اللواء"