بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

14 آب 2018 12:47م التنازل عن الزعامة الاقتصادية والسياسية العالمية

حجم الخط

بيركلي ــ إن أحادية الرئيس الأميركي دونالد ترمب الشاذة لا ترمز لوضع يقل خطورة عن التنازل عن الزعامة الاقتصادية والسياسية العالمية. ففي زمن قياسي، تسبب انسحاب ترمب من اتفاق باريس للمناخ، ورفضه للاتفاق النووي مع إيران، وحرب التعريفات التي يشنها الآن، وهجماته المتكررة على الحلفاء واحتضانه للخصوم والأعداء، في تحويل الولايات المتحدة إلى شريك لا يمكن التعويل عليه في دعم النظام الدولي.

لكن الضرر الذي أحدثته سياسات "أميركا أولا" التي تنتهجها الإدارة الأميركية يتجاوز استبعاد الولايات المتحدة من القيادة العالمية. فقد خلقت هذه السياسات الحيز الذي تحتاج إليه دول أخرى لإعادة تشكيل النظام الدولي كما يحلو لها. ومن المرجح أن تعمل نفس السياسات على تعزيز النفوذ الصيني بشكل خاص.

على سبيل المثال، إذا نظر الاتحاد الأوروبي إلى الولايات المتحدة على أنها شريك تجاري لا يستحق الثقة، فسوف يكون لديه حافز أقوى للتفاوض على اتفاق تجاري مع الصين بشروط مقبولة لدى حكومة الرئيس الصيني شي جين بينج. وفي عموم الأمر، إذا أدارت الولايات المتحدة ظهرها للنظام العالمي، فسوف تصبح الصين في وضع يسمح لها بحمل لواء إصلاح قواعد التجارة والاستثمار الدوليين.

لذا فإن السؤال الرئيسي الذي يواجه العالم هو: ماذا تريد الصين؟ وما هو نوع النظام الاقتصادي الدولي الذي يتصوره قادتها؟

بادئ ذي بدء، من المرجح أن تظل الصين موالية للنمو القائم على الصادرات. ف كما جاء على لسان شي جين بينج في دافوس عام 2017، تلتزم الصين "برعاية اقتصاد عالمي مفتوح". ومن الواضح أن شي جين بينج ودائرته لا يرغبون في تفكيك النظام التجاري العالمي.

لكن من جوانب أخرى، سوف تختلف العولمة التي تحمل سمات وخصائص صينية عن العولمة التي نعرفها. فمقارنة بممارسات ما بعد الحرب العالمية الثانية القياسية، تعتمد الصين بشكل أكبر على الاتفاقيات التجارية الثنائية والإقليمية وبقدر أقل على جولات التفاوض المتعددة الأطراف.

في عام 2002، وقعت الصين على الاتفاقية الإطارية بشأن التعاون الاقتصادي الشامل مع رابطة دول جنوب شرق آسيا. وفي وقت لاحق، تفاوضت على اتفاقيات ثنائية بشأن التجارة الحرة مع 12 دولة إضافية. وبقدر ما تستمر الصين في التأكيد على الاتفاقيات الثنائية وليس المفاوضات المتعددة الأطراف، فإن نهجها هذا يشير ضمنا إلى الدور المتضائل الذي تضطلع به منظمة التجارة العالمية.

وقد دعا مجلس الدولة الصيني إلى استراتيجية تجارية " تتمركز في محيط الصين، وتشع على طول الحزام والطريق، وتواجه العالَم ". ويشير هذا إلى أن قادة الصين يفكرون في نظام تجاري أشبه بمحور الدولاب وشعاعه، حيث الصين هي المحور والدول على المحيط الخارجي هي شعاع الدولاب. ويتكهن آخرون بظهور أنظمة تجارية تتمحور حول الصين وربما أيضا أوروبا والولايات المتحدة ــ وهو السيناريو الذي يصبح أكثر ترجيحا مع بدء الصين في إعادة تشكيل النظام التجاري العالمي.

وربما تعمل الحكومة الصينية بعد ذلك على وضع ترتيبات مؤسسية أخرى تتمحور حول الصين لتكميل استراتيجيتها التجارية. وقد بدأت هذه العملية بالفعل. فقد أنشأت السلطات الصينية البنك الآسيوي للاستثمار في البنية الأساسية، برئاسة جين لي تشون، كبديل إقليمي للبنك الدولي. كما قدم بنك الشعب الصيني 500 مليار دولار من خطوط المقايضة المتاحة لأكثر من ثلاثين بنكا مركزيا، متحديا دور صندوق النقد الدولي. وما يوضح نفوذ الصين في هذا السياق أن بنك الصين للتنمية وبنك الصين الصناعي والتجاري الذي تديره الدولة قدما 900 مليون دولار في هيئة مساعدات طوارئ لباكستان، مما ساعد حكومة باكستان في تجنب، أو على الأقل تأخير، اللجوء إلى صندوق النقد الدولي.

وسوف يكون النظام الدولي الذي تشكله الصين أيضا أقل التفاتا إلى حقوق الملكية الفكرية. ورغم أن المرء يستطيع أن يتصور تغير موقف حكومة الصين مع تحول البلاد إلى مطور للتكنولوجيا الجديدة، فإن قدسية الملكية الخاصة كانت دوما محدودة في النظام الاشتراكي الذي تتبناه دولة الصين. ومن ثَمّ فإن سبل حماية الملكية الفكرية من المرجح أن تكون أضعف من نظيراتها في ظل نظام دولي تقوده الولايات المتحدة.

تسعى حكومة الصين إلى تشكيل اقتصادها من خلال إعانات الدعم والتوجيهات المقدمة للشركات والمؤسسات المملوكة للدولة وغيرها. والواقع أن خطتها بعنوان " صُنِع في الصين 2025 " للترويج لقدرات البلاد في مجال التكنولوجيا الفائقة ليست سوى أحدث تجسيد لهذا النهج. وتفرض منظمة التجارة العالمية قواعد تهدف إلى الحد من إعانات الدعم. ومن المؤكد أن النظام التجاري الذي تتولى الصين تشكيله سوف يعمل في أقل تقدير على التخفيف من هذه القيود.

كما سيكون النظام الدولي الذي تقوده الصين أقل انفتاحا على تدفقات الاستثمار المباشر الأجنبي. ففي عام 2017، كانت مرتبة الصين تالية فقط للفلبين، والمملكة العربية السعودية، وإندونيسيا بين الدول الأكثر من الستين والتي تصنفها منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية وفقا لمدى تقييدها لأنظمة الاستثمار المباشر الأجنبي المتجهة إلى الداخل.

الواقع أن هذه القيود تُعَد أداة أخرى مصممة لإعطاء الشركات الصينية الحيز اللازم لتطوير قدراتها التكنولوجية. ومن المفترض أن الحكومة ستفضل النظام الذي يسمح لدول أخرى باستخدام مثل هذه السياسات. وفي مثل هذا العالَم، ستواجه الشركات الأميركية المتعددة الجنسيات الساعية إلى العمل في الخارج عقبات جديدة.

وأخيرا، تواصل الصين ممارسة رقابة مشددة على نظامها المالي، فضلا عن الإبقاء على القيود المفروضة على تدفقات رأس المال إلى الداخل والخارج. ورغم أن صندوق النقد الدولي أظهر مؤخرا قدرا أكبر من التعاطف مع مثل هذه الضوابط، فإن النظام الدولي الذي تقوده الصين سيكون أكثر تساهلا مع استخدامها. وسوف تكون النتيجة إنشاء حواجز إضافية أمام المؤسسات المالية الأميركية التي تسعى إلى القيام بأعمال على المستوى الدولي.

باختصار، برغم أن الاقتصاد العالمي بقيادة الصين سوف يظل مفتوحا أمام التجارة، فإنه سيكون أقل احتراما للملكية الفكرية الأميركية، وأقل تقبلا للاستثمار المباشر الأميركي، وأقل استيعابا للمصدرين الأميركيين والشركات المتعددة الجنسيات التي تسعى إلى تمهيد أرض الملعب لتحقيق مبدأ التكافؤ. وهذا عكس ما تقول إدارة ترمب إنها تريد تحقيقه. لكنه النظام الذي من المرجح أن تتسبب السياسات التي تنتهجه الإدارة ذاتها في توليده.

المصدر: PS، موقع "اللواء"