بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

8 كانون الأول 2018 09:31ص الشعبوية وليدة السياسة وليس الاقتصاد

حجم الخط

سانتياجو ــ يحكم دونالد ترمب ما يقرب من 330 مليون أميركي. وفي البرازيل، التي يبلغ عدد سكانها 210 مليون نسمة، نجد حكومة شعبوية منتخبة حديثا. و يعيش نحو 170 مليون أوروبي في ظل حكومات تضم وزيرا شعبويا واحدا على الأقل. أضف إلى هذا الفلبين، التي يتجاوز عدد سكانها 100 مليون نسمة، وتركيا التي يقرب عدد سكانها من 80 مليون نسمة. في المجموع، يخضع مليار شخص على الأقل الآن لحكم شعبويين من صنف أو آخر.

كثيرا ما يُلقى اللوم على الشعبوية الجديدة عن جيل أو أكثر من الأجور المتوسطة الراكدة. وفي بلدان مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، تفاقم توزيع الدخل سوءا، فأصبح المنتمون إلى شريحة أعلى 1% دخلا تحصد نصيب الأسد من مكاسب النمو الاقتصادي. الواقع أن الأزمة المالية العالمية التي اندلعت عام 2008 لم تتسبب في إحداث قدر كبير من الآلام فحسب؛ بل عملت أيضا على تعزيز اعتقاد يقيني مفاده أن وال ستريت ومين ستريت عدوان. وعلى هذا فليس من المستغرب أن تصبح السياسة أميل إلى المواجهة.

إذا كانت القصة صحيحة، فإن الاستنتاج السياسي بسيط: التخلص من الأوغاد الذين حققوا للمصرفيين مرادهم، وفرض الضرائب على الأثرياء، وإعادة توزيع الدخل بشكل أكثر قوة. وبهذا يأفل نجم الشعبوية في نهاية المطاف.

ولكن على الرغم من الجاذبية السياسية التي قد ينطوي عليها هذا السرد النمطي ــ الذي يمكننا أن نعتبره فرضية انعدام الأمن الاقتصادي ــ فهو يشكل وصفا هزيلا للواقع. فهو لا يتناسب مع الحقائق في الأسواق الناشئة، وقد لا ينطبق حتى على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة.

بعد فترة وجيزة من الانتخابات الرئاسية الأميركية في عام 2016، أشار الخبير الإحصائي نيت سيلفر إلى أن هيلاري كلينتون أدخلت تحسينات على أداء باراك أوباما في عام 2012 في 48 من أصل 50 أفضل مقاطعة تعليما وثقافة في البلاد. وخسرت كلينتون الأرض في مقابل أوباما ــ بمتوسط 11 نقطة مئوية ــ في 47 من أصل 50 أسوأ مقاطعة تعليما وثقافة. وخلص سيلفر إلى أن "التعليم، وليس الدخل، هو الذي تنبأ بمن قد يصوت لصالح ترمب".

منذ ذلك الحين، رأينا مئات الخطوات تتخذ إلى الخلف في محاولة لفرز أنماط الأشخاص الذين صوتوا لصالح ترمب أو خروج المملكة المتحدة من الاتحاد الأوروبي. وتلخص ورقة بحثية حديثة مؤثرة هذه المناقشة: "إن تهديد المكانة، وليس الصعوبات الاقتصادية، هو الذي يفسر التصويت الرئاسي في عام 2016". وكذا يفعل عنوان دراسة أخرى : "تحول الأصوات في انتخابات 2016: كيف تفسر التوجهات العنصرية والمواقف إزاء الهجرة، وليس الاقتصاد، التحولات في تصويت أصحاب البشرة البيضاء".

وماذا عن المملكة المتحدة؟ خلصت دراسة بحثية أجريت في كلية لندن للاقتصاد، والتي فحصت 380 سلطة محلية، إلى أنه في حين يُعَد التعليم والديموغرافيا من مؤشرات التكهن الجيدة بمن صوت في يونيو/حزيران 2016 لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي، فلا يندرج التعرض للتجارة ومدى خفض الميزانية تحت مثل هذه المؤشرات.

وعلى هذا، تبدو فرضية "ردة الفعل الثقافية العكسية" أكثر إلحاحا من فرضية "انعدام الأمان الاقتصادي. ولا يقتصر هذا الاستنتاج على الولايات المتحدة والمملكة المتحدة. خلصت ببا نوريس ورونالد انجلهارت، اللذان درسا أداء الأحزاب السياسية في 31 دولة أوروبية إلى التالي: "في الإجمال، بوسعنا أن نجد الأدلة الأكثر ثباتا في دعم فرضية ردة الفعل الثقافية العكسية".

الآن، لا يحتاج المرء إلى خبراء مخضرمين في الاقتصاد القياسي لكي يلاحظ أن الشعبوية اليمينية، خارج الحدود المريحة لأميركا الشمالية وأوروبا الغربية، تؤثر على وجه التحديد على تلك البلدان التي تتمتع بأداء اقتصادي قوي إلى حد غير عادي ــ وهذا عكس ما قد تتنبأ به فرضية "انعدام الأمان الاقتصادي". فقد نما اقتصاد تركيا بمعدل سنوي بلغ 6.9% في المتوسط منذ عام 2010. وحققت الفلبين نموا سنويا بلغ 6.4% في المتوسط في ذات الفترة. ولم يحدث ركود اقتصادي هناك.

تُعَد بولندا والمجر من الاقتصادات الأكثر ثراء، ولهذا ربما يتوقع المرء معدلات نمو أقل هناك؛ ومع ذلك ارتفع الناتج المحلي لإجمالي السنوي في البلدين منذ عام 2010 بمعدل لائق (3.3% في بولندا ونحو 2.1% في المجر). أو لنتأمل جمهورية التشيك المجاورة، حيث انخفض معدل البطالة إلى 2.3%، وهو أدنى معدل في الاتحاد الأوروبي، وسجل الاقتصاد نموا بلغ 4.3% في عام 2017. ويقيم هناك قِلة من المهاجرين، ولا تواجه البلاد أزمة لاجئين تُذكَر. ومع ذلك اجتذبت الأحزاب الشعبوية أربعة من كل عشرة ناخبين في أحدث انتخابات عامة عقدت هناك ــ وهي زيادة مقادرها عشرة أضعاف في غضون عقدين من الزمن.

إلى جانب بيانات النمو الكلي، لا يمكن إنكار حقيقة مفادها أن أغلب المواطنين في هذه الدول يعيشون حياة أفضل كثيرا من حياة مواطنيهم قبل جيل واحد. في عام 1995، كان متوسط الأجر السنوي في بولندا 15800 دولار أميركي، واليوم أصبح 27000 دولار. وكانت الزيادة في المجر مشابهة.

وكانت الحال في البرازيل مختلفة: فقد شهدت حالة من الركود العظيم في 2015 و2016، خلال ولاية الرئيسة ديلما روسيف الثانية. ولكن في وقت سابق كانت سياسات إعادة التوزيع في البلاد تتسم بالقوة، وقد بدأها الديمقراطي الاجتماعي فرناندو إنريكي كاردوسو واستمرت في عهد لويز إيناسيو لولا دا سيلفا. ووفقا لصحيفة نيويورك تايمز، أفاد لولا "عشرات الملايين من البرازيليين" بفضل "البرامج الاجتماعية التي تبنتها إدارته". وقبل عقد من الزمن، وصفه أوباما بأنه "السياسي الأكثر شعبية على وجه الأرض".

الاستنتاج الذي لا يمكن تجنبه هو أن الشعبويين هم نسل المكاسب الاقتصادية وليس الآلام.

يتبقى لنا حقيقة شائكة أخيرة يجب أخذها بعين الاعتبار: إذا عكست الشعبوية المتصاعدة الطلب على إعادة التوزيع، فقد نتوقع أن يكون هذا التصاعد على اليسار، وليس اليمين. صحيح أن أندريس مانويل لوبيز أوبرادور اكتسح للتو طريقه إلى السلطة في المكسيك، ولا يزال حزب سيريزا يحكم اليونان، واكتسب حزب بوديموس المزيد من النفوذ في إسبانيا، ويواصل نيكولاس مادورو شن الحرب ضد شعبه في فنزويلا. لكن الحقيقة الصارخة هي نجاح الشعبويين اليمينيين، من ترمب في الولايات المتحدة إلى فيكتور أوربان في المجر، ومن ماتيو سالفيني في إيطاليا إلى ياير بولسونارو في البرازيل، ومن ياروسواف كاتشينسكي في بولندا إلى رودريجو دوتيرتي في الفلبين. ورغم أن سياساتهم من المرجح أن تزيد توزيع الدخل سوءا، لا أن تحسنه، فإن الناخبين يهللون لهم.

لا شيء من هذا ينفي شدة المظالم الاقتصادية، سواء في شمال إنجلترا أو في الغرب الأميركي الأوسط، أو شرق تركيا، أو الأحياء الفقيرة في البرازيل. المقصود هنا هو أن السياسة تملي علينا كيف نتعامل مع تجربة النجاح والفشل الاقتصادي. ويشير التحول نحو الشعبوية والسلطوية إلى فشل السياسة في إدارة المظالم بفعالية.

علاوة على ذلك، ربما يولد التأكيد على الاقتصاد وحده الشعور بالرضا عن الذات: فما عليك إلا الجلوس وانتظار تعافي الاقتصاد. ومن الواضح أن محاولة مواجهة النزعة الشعبوية والسياسة غير الليبرالية في مختلف أنحاء العالَم بالاكتفاء بتعديل توزيع الدخل قد ترقى إلى مثال آخر للغطرسة التكنوقراطية. إنها إغراءات بالغة الخطورة ويجب تجنبها.

يبدو أن النخب السياسية التقليدية أصبحت بعيدة عن الاتصال بالواقع على نحو متزايد. وكانت غطرسة هذه النخب ــ لنتذكر هنا وصف هيلاري كلينتون للناخبين الذي صوتوا لصالح ترمب بأنهم "شرذمة من البائسين المثيرين للشفقة" ــ كفيلة بزيادة الطين بلة. وربما يبغض الناخبون المؤسسة السياسية لأنها فاسدة (كما هي الحال في البرازيل والمكسيك)، أو لأنها تكتسب قوتها عن طريق تمويل غير شفاف للحملات الانتخابية (كما هي الحال في الولايات المتحدة)، أو لأنها ظلت في السطلة لفترة طويلة للغاية، فاستنفدت مدة الترحيب بها (كما هي الحال مع الديمقراطيين الاجتماعيين في قسم كبير من أوروبا والحزب الشعبي في إسبانيا). وتتفاوت التفاصيل، لكن الرسالة واضحة: فقد عملت الأخطاء العديدة التي ارتكبتها النخب السياسية التقليدية كمادة تغذية مثالية للشعبويين المناهضين للمؤسسة.

نحن في احتياج إذا إلى التغيير الاقتصادي، لكننا في احتياج أشد إلى التغيير السياسي. وإلا فإن عدد الناخبين الشعبويين سيستمر في النمو.

المصدر: PS، موقع "اللواء"