بيروت - لبنان

اخر الأخبار

بوابة العالم

22 أيار 2019 12:54م العواقب العالمية المترتبة على الحرب الباردة بين الصين وأميركا

حجم الخط
قبل بضع سنوات، التقيت بالرئيس الصيني شي جين بينج في قاعة الشعب الكبرى في بكين، بصفتي عضوا في وفد غربي إلى الصين. عندما خاطبنا، قال شي إن نهوض الصين سيكون سلميا وإن الدول الأخرى ــ الولايات المتحدة على وجه التحديد ــ لا ينبغي لها أن تشعر بالقلق بشأن ما يسمى "مصيدة ثيوسيديدس"، التي اكتسبت اسمها من المؤرخ اليوناني الذي روى كيف تسبب خوف أسبرطة من أثينا الصاعدة في جعل الحرب بين الجانبين حتمية. في كتابه الصادر في عام 2017 بعنوان "الحرب قدرهما: هل تتمكن أميركا والصين من الهروب من مصيدة ثيوسيديدس؟"، يتناول جراهام أليسون من جامعة هارفارد ست عشرة خصومة سابقة بين قوة ناشئة وأخرى راسخة، ويخلص إلى أن اثنتي عشرة خصومة منها أفضت إلى الحرب. لا شك ان شي جين بينج كان يريد منا أن نركز على الخصومات الأربعة المتبقية.
على الرغم من الوعي المشترك بمصيدة ثيوسيديس ــ والاعتراف بأن التاريخ ليس حتميا ــ يبدو أن الصين والولايات المتحدة تنزلقان إليها على أية حال. ورغم أن اندلاع حرب ساخنة بين القوتين الرئيسيتين في العالم لا يزال يبدو احتمالا بعيدا، فإن نشوب حرب باردة أصبح أكثر ترجيحا.
تلقي الولايات المتحدة اللوم على الصين عن التوترات الحالية. فمنذ انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في عام 2001، جنت الصين الفوائد التي أتاحها نظام التجارة والاستثمار العالمي، في حين تقاعست عن الوفاء بالتزاماتها وامتطت بالمجان قواعد المنظمة. وفقا للولايات المتحدة، اكتسبت الصين ميزة غير عادلة من خلال سرقة الملكية الفكرية، ونقل التكنولوجيا القسري، وتقديم إعانات الدعم للشركات المحلية، وغير ذلك من أدوات رأسمالية الدولة. في الوقت ذاته، أصبحت حكومتها سلطوية على نحو متزايد، مما أدى إلى تحول الصين إلى دولة خاضعة للمراقبة أشبه برواية جورج أورويل.
من جانبهم، يشتبه الصينيون في أن يكون هدف الولايات المتحدة الحقيقي منعهم من الصعود إلى مستويات أعلى أو استعراض قوتهم المشروعة ونفوذهم في الخارج. ومن المعقول تماما من منظورهم أن تسعى الدولة صاحبة ثاني أكبر اقتصاد في العالم (تبعا للناتج المحلي الإجمالي) إلى توسيع وجودها على المسرح العالمي. وقد يزعم قادة الصين أن نظامهم نجح في تحسين الرفاهة المادية لنحو 1.4 مليار مواطن صيني، وهو الإنجاز الذي لم تقترب الأنظمة السياسية المتعثرة في الغرب من تحقيق إنجاز قريب منه حتى.
بصرف النظر عن أي جانب يسوق الحجة الأقوى، فإن تصعيد التوترات الاقتصادية، والتجارية، والتكنولوجية، والجيوسياسية، ربما كان حتميا لا مفر منه. وما بدأ كحرب تجارية بات يهدد الآن بالتفاقم إلى حالة دائمة من العداء المتبدل. وينعكس هذا فياستراتيجية الأمن الوطني التي تتبناها إدارة ترمب، التي تعتبر الصين "منافسا" استراتيجيا يجب احتواؤه على الجبهات كافة.
ولهذا، تقيد الولايات المتحدة بشدة الاستثمار المباشر الأجنبي الصيني في القطاعات الحساسة، وتلاحق تدابير أخرى لضمان الهيمنة الغربية على صناعات استراتيجية مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الـ 5G (الجيل الخامس من شبكات الاتصال اللاسلكية). وهي تضغط على الشركاء والحلفاء لحملهم على الامتناع عن المشاركة في مبادرة الحزام والطريق، البرنامج الصيني الضخم لبناء مشاريع البنية الأساسية في مختلف أنحاء منطقة أوراسيا. كما تحرص الولايات المتحدة على زيادة الدوريات البحرية الأميركية في بحر الصين الشرقي وبحر الصين الجنوبي، حيث أصبحت الصين أكثر عدوانية في التأكيد على مطالباتها الإقليمية الملتبسة المشكوك في صحتها.
 
الواقع أن العواقب العالمية المترتبة على الحرب الباردة بين الصين وأميركا ستكون أشد وطأة حتى من تلك التي خلفتها الحرب الباردة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي. ففي حين كان الاتحاد السوفييتي قوة مضمحلة ذابلة تتبنى نموذجا اقتصاديا فاشلا، فإن الصين ستصبح قريبا الدولة صاحبة أكبر اقتصاد في العالم، وسوف تستمر في النمو. علاوة على ذلك، كانت أحجام التجارة المتبادلة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي ضئيلة للغاية، في حين أن الصين مندمجة بشكل كامل في نظام التجارة والاستثمار العالمي، ومتشابكة بعمق مع الولايات المتحدة بشكل خاص.
وعلى هذا فإن اندلاع حرب باردة تامة النطاق قد يشعل شرارة مرحلة جديدة من تفكيك العولمة، أو على الأقل تقسيم الاقتصاد العالمي إلى كتلتين اقتصاديتين غير متوافقتين. في أي من السيناريوين، ستكون التجارة في السلع، والخدمات، والعمالة، والتكنولوجيا، والبيانات، مقيدة بشدة، وسوف يصبح العالم الرقمي مفتتا وليس متشابكا، حيث تصبح العقد الغربية منفصلة عن العقد الصينية. والآن بعد أن فرضت الولايات المتحدة عقوبات على شركة ZTE وشركة Huawei، لن تدخر الصين جهدا لضمان تمكين عمالقة التكنولوجيا لديها من الحصول على المدخلات الأساسية محليا، أو على الأقل من شركاء تجاريين ودودين لا يعتمدون على الولايات المتحدة.
في هذا العالم المنقسم على نفسه، تتوقع كل من الصين والولايات المتحدة أن تختار كل دولة أخرى أحد الجانبين، في حين ستحاول أغلب الحكومات إيجاد التوازن بالحفاظ على علاقات اقتصادية طيبة مع الطرفين. ذلك أن العديد من حلفاء الولايات المتحدة الآن يزاولون أعمالا تجارية مع الصين أكثر من تلك التي يزولونها مع الولايات المتحدة (من حيث التجارة والاستثمار). ومع ذلك، في اقتصاد المستقبل، حيث تتحكم كل من الصين والولايات المتحدة بشكل منفصل في القدرة على الوصول إلى تكنولوجيات حيوية مثل الذكاء الاصطناعي وتكنولوجيا الـ 5G، ستكون الأرض الوسطى في الأرجح غير صالحة للسكنى. وسوف يكون لزاما على الجميع أن يختاروا، وربما يدخل العالم في عملية طويلة من تفكيك العولمة.
مهما حدث، فإن العلاقة الصينية الأميركية ستكون القضية الجيوسياسية الأساسية في هذا القرن. ومن المحتم أن نشهد درجة ما من التنافس. ولكن في الأحوال المثالية، سيدير كل جانب هذا التنافس بشكل إيجابي بَنَّاء، بما يسمح بالتعاون بشأن بعض القضايا والمنافسة الصحية في ما يتصل بقضايا أخرى. في واقع الأمر، ستعمل الصين والولايات المتحدة على بناء نظام دولي جديد، يقوم على الاعتراف بأن القوة الجديدة الصاعدة (حتما) يجب أن تمنح الدور الذي يتناسب مع حجمها في صياغة وتشكيل القواعد والمؤسسات العالمية.
إذا أسيئت إدارة هذه العلاقة ــ مع محاولة الولايات المتحدة إخراج جهود التنمية الصينية عن مسارها واحتواء صعود الصين، ومع استعراض الصين لقوتها بشكل عدواني في آسيا وحول العالم ــ فسوف يترتب على ذلك نشوب حرب باردة تامة النطق، ولن يكون بوسعنا أن نستبعد اندلاع حرب ساخنة بين القوتين (أو سلسلة من الحروب بالوكالة). في القرن الحادي والعشرين، قد تبتلع مصيدة ثيوسيديدس ليس فقط الولايات المتحدة والصين، بل والعالم بأسره.
 
المصدر: PS، موقع "اللواء"